الرؤساء فى الولايات المتحدة يأتون ويذهبون. وسواء كان الرئيس من الحزب الديمقراطى (شأن الرئيس الحالى باراك أوباما) أو من الحزب الجمهورى (شأن الرئيس السابق جورج بوش)، فإن اسرائيل تبقى حاضرة دائما. فهى منذ أن دخلت البيت الأبيض فى الأربعينيات من القرن الماضى لم تغادره ولا لمرة واحدة.
وما يقال عن البيت الأبيض يقال أيضا عن الكونجرس بمجلسيه، الشيوخ والنواب. ويشكل هذا الحضور الاسرائيلى الدائم أحد الثوابت فى السياسة الخارجية الأمريكية، وتحديدا فى علاقات الولايات المتحدة مع العالم العربى وامتدادا مع العالم الاسلامى.
يعكس هذا الواقع مظاهر الاحتفال الذى أقامته «إيباك» (المنظمة الأم للمنظمات والجمعيات اليهودية الأمريكية) لمناسبة ذكرى قيام اسرائيل. فقد حضر الاحتفال 286 عضوا من أعضاء المجلس النيابى و67 عضوا من أعضاء مجلس الشيوخ. وهذا أكبر تجمع فى تاريخ الولايات المتحدة لأعضاء المجلسين خارج الكونجرس.
استمع هؤلاء الاعضاء إلى لاءات رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، وهى: لا لعودة للاجئين الفلسطينيين، لا للعودة إلى حدود 1967، ولا للانسحاب من أى جزء من مدينة القدس.
وتعيد هذه اللاءات الاسرائيلية إلى الأذهان اللاءات العربية التى أعلنتها القمة العربية التى عقدت فى الخرطوم بالسودان عقب هزيمة يونيو 1967، وهى: لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضة مع اسرائيل. والمسافة المعنوية والسياسية بين اللاءات العربية بالأمس، واللاءات الاسرائيلية اليوم، تعكس مدى نجاح الولايات المتحدة فى تحقيق هذا التحول الذى جرى على نار اسرائيلية حامية أحيانا، وعلى نار أمريكية باردة فى معظم الأحيان، وذلك طوال العقود الثلاثة والنصف الماضية.
وهناك مؤشرات عديدة على ذلك، لعل أبرزها ما عسكه الخطابان السياسيان للرئيس الأمريكى وللرئيس الاسرائيلى نتنياهو.
فالرئيس أوباما الذى تحدث عن مبدأ العودة إلى حدود 1967 سرعان ما تمكن اللوبى اليهودى الأمريكى الأمريكى من لى لسانه، ومن ثم من لى ذراعه. فاضطر أمام الإيباك أن يقدم توضيحات تراجعية فى بدء استعداده لخوض معركة رئاسية ثانية. ففى الانتخابات الرئاسية التى جرت فى عام 2008 حصل أوباما على ما نسبته 78 بالمائة من أصوات اليهود. وهى نسبة عالية جدا، قل إن حصل عليها رئيس من قبل. ولذلك فإن من الطبيعى أن يحرص أوباما على عدم خسارة هؤلاء المؤيدين الذين تشكل أصواتهم قوة مرجحة فى أى انتخابات رئاسية. من أجل ذلك وخلافا لكل الإيحاءات المعاكسة، فقد قدم الرئيس أوباما لإسرائيل، وتعهد بتقديم المزيد من الدعم العسكرى والاقتصادى بحيث إنها حصلت من إدارته على ما لم تحصل عليه من أى ادارة أمريكية سابقة باعتراف الاسرائيليين أنفسهم، خاصة فى المجال العسكرى. وما العقوبات التى تفرضها ادارته على ايران إلا استجابة لمطالب اسرائيل واسترضاء لها؟
أما الرئيس الاسرائيلى فإنه، شأنه شأن من سبقه من الرؤساء الاسرائيليين، يجيد فن استغلال اللحظة السياسية. أى لحظة حاجة المرشح الأمريكى للرئاسة إلى استرضاء اللوبى اليهودى. فقد عرض عضلاته القوية فى ذكرى إنشاء إسرائيل. وحشدت «إيباك»، إضافة إلى أعضاء الكونجرس، عشرة آلاف شخصية يهودية أو مؤيدة لإسرائيل فى الحفل الذى أقامته بهذه المناسبة.
وفيما كان الاحتفال جاريا بحضور أوباما ونتنياهو، وأعضاء مجلسى الشيوخ والنواب، والعشرة آلاف مؤيد، كان بضع مئات من اللاجئين الفلسطينيين يتظاهرون أمام الأسلاك الاسرائيلية الشائكة والمكهربة على حدود جنوب لبنان والجولان مع فلسطين المحتلة، فى محاولة منهم لتذكير العالم بحقوقهم، وبمأساتهم. ولكن الذى تذكره العالم، رغم سقوط عشرات الضحايا من المتظاهرين الفلسطينيين برصاص الجيش الاسرائيلى، هو الهولوكوست، وضرورة تعزيز اسرائيل وحمايتها حتى لا يتعرض اليهود إلى هولوكوست جديدة. وكأن العرب أو المسلمين هم الذين ارتكبوا مجزرة الهولوكوست وليس أولئك الذين يتنافسون اليوم على استرضاء اسرائيل وتغطية جرائمها واحتلالها.
هناك تحالف قوى بين الحزب الجمهورى المعارض للرئيس أوباما والحزب الديمقراطى من جهة، وبين الحركة الانجيلية الصهيونية الأمريكية. فزعيم الأكثرية الجمهورية فى البرلمان الأمريكى أريك كانتور، يهودى مؤيد لإسرائيل فى السراء والضراء كما يقول هو دائما. ثم انه مرشح للرئاسة، وهذا يعنى انه سوف يكون منافسا للرئيس أوباما. فهل يعقل والحالة هذه أن لا يتمتع بدعم وتأييد «إيباك»؟
وإذا تبنى الحزب الجمهورى تسميته رسميا، فقد يكون اليهودى الأمريكى الأول الذى قد يدخل إلى البيت الأبيض، الأمر الذى يشير إلى نوعية التوقعات المحسوبة للسياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط.
من هنا تبرز أهمية دور الحركة الانجيلية الصهيونية التى تؤيد اسرائيل لأسباب ولأهداف عقائدية وليس لأسباب سياسية أو اقتصادية. فالعقيدة التى تؤمن بها هذه الحركة تقول بالعودة الثانية للمسيح، وبأن لهذه العودة شروطا لا بد من العمل على تحقيقها. فالمسيح لن يعود الا إلى مجتمع يهودى ولذلك لا بد من وجود صهيون (أى إسرائيل). ولا بد لصهيون هذه من أن تبنى الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى والذى سوف يظهر المسيح فيه. ولكن لا بد قبل ذلك من وقوع معركة هرمجى دون المدمرة التى يقتل فيها الملايين من منكرى المسيح بمن فيهم اليهود، وتقول نظريتهم الدينية إن 144 ألفا فقط من اليهود سوف ينجون بعد تحولهم إلى المسيحية (الولادة الثانية) وبعد إيمانهم بالمسيح الذى يرفعهم إليه فى السماء مع بقية المؤمنين، ثم يهبطون جميعا إلى الأرض لنشر العدالة والسلام فى العالم.
وعندما تحدث نتنياهو أمام «إيباك» عن «الرابط العقائدى بين الولايات المتحدة وإسرائيل»، كان يشير تحديدا إلى هذا البعد الدينى. وكان هذا البعد كذلك وراء السلوك النادر لمجلسى الكونجرس فى 24 مايو الماضى، إعرابا عن الترحيب المبالغ به لنتنياهو والتأييد الممجوج بالتصفيق له وقوفا فى كل مرة كان يذكر فيها اسم إسرائيل، أو عبارة الشعب اليهودى.
من هنا علامة الاستفهام الكبرى، كيف يعقل أن يتجاوز الرئيس الأمريكى ــ أى رئيس ــ جمهوريا كان أم ديمقراطيا، هذا البعد العقائدى الذى لا انفصام له بين الولايات المتحدة وإسرائيل؟
غير أن علامة الاستفهام الأكبر، والأشد إثارة للجدل، هى كيف يعقل أن يبنى العالم العربى الآمال على السياسة الأمريكية لاسترجاع الحقوق الفلسطينية المغتصبة؟