قضت المصادفة بأن تجرى ثلاثة أحزاب منضوية فى التنظيم الدولى لحركة الإخوان المسلمين مؤتمراتها فى الأيام الماضية فى تونس والمغرب فى الوقت الذى عقد الفرع السورى مؤتمره الأول فى المنفى منذ ثلاثين عاما. ويصدف ايضا ان يثير انتخاب الرئيس محمد مرسى الفضول حول إعلان «حزب الحرية والعدالة» مشروعه السياسى الاقتصادى الاجتماعى تحت عنوان «مشروع النهضة». تخدم المناسبات ووثائقها فى الإضاءة على فكر وسياسات «الإسلام الوسطى» فى السلطة.
الجامع المشترك بين تيارات هذا المنوّع من الإسلام السياسى هو الوعد ببناء «الدولة المدنية». لا يختصر الحزب المصرى رؤى زملائه، ولكنه يمكن ان يخدم كحقل اختبار. فأين «الدولة المدنية» فى برامج وسياسات «الإسلام الوسطى»؟
●●●
إذا كان الأمر يتعلّق بتعريف «المدنى» فى مقابل «العسكرى»، لا بد من تسجيل ثلاث خطوات مهمة للرئيس محمد مرسى فى هذا المجال. فقد حال انتخابه رئيسا دون اكتمال الانقلاب الذى أعد له المجلس العسكرى لإيصال مرشحه أحمد شفيق إلى الرئاسة. وسجّل مرسى إلى ذلك بادرة بالغة الأهمية فى انصياعه بما هو رئيس الدولة للدستور فى موضوع إلغاء مجلس الشعب. والأهم انه مستمر فى خوض المعركة الدستورية لإلغاء «التعديل الدستورى المكمّل».
عن «الدولة المدنية» فى معانيها الأخرى، نود ان نقترح مدخلا إلى فهم فكر وسياسات حزب «الحرية والعدالة» بتحديد صفتها الأبرز على انها نزعة شعبوية محافظة مختلطة بليبرالية اقتصادية. ونعنى بالشعبوية هنا بث رسائل متعددة ومتناقضة إلى فئات الشعب المختلفة والحديث إلى كل فئة اجتماعية بلغتها، من سكان العشوائيات إلى المستثمرين الأجانب، مرورا بالاقباط والنساء، والفلاحين الصغار، وإذ نسى الرئيس المنتخب المثقفين والفنانين فى احدى خطبه، سارع إلى ذكرهم والتودد إليهم فى أخرى.
ولكن هذه الشعبوية، على ادعائها «الوسطية»، يبدو انها فى نهاية المطاف أكثر تعبيرا عن مصالح «برجوازية مؤمنة»، ترتكز إلى قاعدة واسعة من الطبقة الوسطى المهنية، وقد نمت وترعرت وحققت تراكمها الأولى فى جُزُر القطاع الخاص التى أفلتت من هيمنة القطاع العام على الاقتصاديات المصرية منذ الخمسينيات. وها هى هذه الكتلة الواسعة من المصالح تنتقل إلى الاستثمار فى الدولة والسلطة واكتساب مواقع القوة والتقرير فى هذه وتلك.
●●●
تكفّلت وفرة الآيات القرآنية فى خطبة الانتصار بتأكيد الهوية الاسلامية الثقافوية للرئيس وعهده. على ان أولى المناسبات للتعبير عن «المدنية» فى مجال العلاقة بين السلطة والدين، جاءت سلبية. استنكر الرئيس المنتخب فى خطاب القسم أن «يوصيه» أحد بالأقباط. ولعل مفردة «الوصاية» جاءت بمثابة زلّة لسان. لكنها زلّة لسان معبّرة. فالوصاية شيء والاعتراف بالمساواة السياسية والقانونية بين المصريين بمن هم مواطنون ومن ثم البحث فى تمييز جماعات منهم تصحيحا لحيف وظلم وقع عليها وتراكم شىء آخر تماما. أوحت أوساط الرئيس بنيته تعيين قبطى وامرأة فى منصب نائبَى رئيس الجمهورية. سرعان ما وقع الاقتراح ضحية ابتزاز السلفيين الذين أثاروا عدم جواز خلافة مسيحى للرئيس المسلم فى حال الوفاة، ما سوف يستدعى إما اختزال تمثيل الاقباط والنساء بامرأة قبطية وإما زيادة نائب رئيس مسلم لأغراض الوراثة، بعد عمر طويل.
فى خطبة الانتصار، توجه الرئيس مرسى إلى «مصر العميقة» بلغة الانتماء للأهل والعشيرة تثبيتا لنزعة محافظة اجتماعية متمحورة حول الأسرة. كيف يستوى هذا التوجه مع «المجتمع المدنى» الذى تكرر التنظيمات الإسلامية ذكره مثل التعويذة؟ يستوى باختراع «مجتمع مدنى» متأسلم، تربوى وأخلاقى، توكل اليه مهمة «دعم رسالة الأسرة وتوعية أفراد الاسرة بتحديات الواقع ومتطلبات المستقبل». وهذا «مجتمع مدنى» لن يتردد فى ضبط حرية الإعلام بحدود «القيم المصرية الأصيلة». على ما يقترح «المشروع». ومعروف من يفسّر تلك القيم عندما تدعو الحاجة. أى اننا أمام صيغة ل«المجتمع المدنى» مطهّرة من كل ما يتعلّق بالمواطنة القائمة على الانضواء الطوعى للأفراد على حساب الانتماءات أو الولاءات الأسروية والجهوية والمذهبية والاثنية.
●●●
تستدعى الشعبوية الإكثار من الوعود. فى المجال الاقتصادى: رفع نسبة نمو الدخل الأهلى، تقليص البطالة، وخفض التضخم بنسبة النصف، مضاعفة حصة الفرد من الناتج المحلى، الخ. ولكن عند البحث فى المصادر التى تسمح بتحقيق قفزات كهذه، لن نجد اختلافا كبيرا عما كان سائدا فى عهد مبارك، بما فيه الاستثمارات الخارجية، باستثناء موارد جديدة يقترحها «المشروع» من خلال الزكاة وإحياء الوقف وصناديق الاستثمار الإسلامية. وفى المجال الاجتماعى، تكثر الوعود ب«حماية كرامة الفقراء والمهمشين» وإشراكهم فى عملية التنمية ومضاعفة عدد المستفيدين من الضمان الاجتماعى والصحى والغاء ديون صغار الفلاحين، وتخصيص حصة من الضرائب ل«تنمية» العشوائيات مع إقران هذه «التنمية» بتسهيل مغادرة السكان الطوعى للعشوائيات.
مهما يكن، ينطوى المشروع التنموى المقترح على معادلة غامضة ومتناقضة تقضى بتحقيق «التحول من اقتصاد ريعى إلى اقتصاد قيمة مضافة فى اطار مجتمع المعرفة والانتاج». فى البدء، لسنا متأكدين من انه يجوز وصف الاقتصاد المصرى بأنه «ريعى». إلى هذا، فالمشروع الاقتصادى الإسلامى يوجه التحية باتجاهين. تحية إلى «منظمة التجارة العالمية» من خلال التعهد باعتماد الضرائب غير المباشرة بديلا من الرسوم الجمركية والضرائب المباشرة على الدخل. واما التحية الثانية، فموجهة ل«تقارير التنمية البشرية العربية» ذائعة الصيت ومشروعها «بناء مجتمع المعرفة» الذى لم نعد نسمع عنه كثيرا منذ ان اعلن حاكم دبى، الامير محمد بن راشد آل مكتوم، تخصيص ميزانية بعشرة مليارات دولار قبل ان يعلن وفاة المشروع.
أما الحديث عن ضمان الاستقلال المالى ل«المجتمع المدنى» فى وجه الدولة، فيجعله معادلا ل«القطاع الخاص» مثلما هو فعلا فى الفكر الليبرالى. وهذا يعنى ضبط دور الدولة فى حدود توجهات البنك الدولى وصندوق النقد خارج أى تخطيط أو حماية أو دور فى التوزيع الاجتماعى أو حتى فى بناء «شبكات الأمان الاجتماعى». بل يصل انضباط «مشروع النهضة» لحزب «الحرية والعدالة» بإملاءات المؤسسات المالية الدولية حد تبنى ترسيمة «تنمية الناتج المحلى الاجمالى» مقياسا للجدوى الاقتصادية. علما ان مدير البنك الدولى ومدير صندوق النقد الدولى السابق، اكتشفا ان ارتفاع معدلات نمو الناتج المحلى فى البلدين العربيين النموذجين، تونس ومصر، لم يعفِهما من اندلاع ثورة ذات حوامل اجتماعية بيّنة، ولا نمو الناتج المحلى أسهم فى خلق فرص عمل تفى بالحد الادنى من مكافحة البطالة.
●●●
قد تفاجئ الحدّةُ التى وصف بها الكاتب محمد حسنين هيكل «مشروع النهضة» بأنه «كلام لا معنى له» جاء ل«استبدال شعار الإسلام هو الحل» الذى فقد بريقه. ولكن قد لا يفاجئ ترحيب البنك الدولى بفوز مرسى بالرئاسة وتجديد إعلان استعداد البنك لإقراض الدولة المصرية.