شىء ما فى حياتنا حدث، أو يحدث، يجعل كثيرين ممن أعرفهم يشعرون أن أهميتهم انحدرت، وبعضهم، رجال ونساء، أسرّ بأنه كان شيئا ويخشى أنه صار لا شىء.
●●●
قال أحدهم: كانت تصل إلى عنوانى رسائل بريدية تحمل اسمى، يأتى بها إلى منزلى «البوسطجى» وإذا لم يجد بوابنا العجوز ليتسلم منه الرسائل نادى علينا من «بير السلم» مضيفا ألقاب تكريم لم تكن تتناسب ومرحلتى العمرية أو التعليمية. كان النداء فى حد ذاته تذكيرا للجيران وأفراد أسرتى وأنا نفسى، بأننى شىء مهم». أضاف أنه عندما تخرج فى المدرسة وحصل على وظيفة واختلط بمعارف جدد فى العمل «كان هناك كثيرون يبحثون عنى بعد ساعات القيلولة لنتسامر أو نتشاور، يبحثون فى المقهى الواقع على ناصية التقاء شارعنا بالميدان الفسيح ان كان اليوم يوما من أيام الأسبوع، أو فى المقهى الواقع على ناصية عماد الدين والقريب من دور السينما إن كان اليوم خميسا أو جمعة. كانوا يسألون النادل عنى بالاسم».
●●●
كنت اسما فى الحى عند ساعى البريد وعند الجيران وعند البقال والحلاق. وكنت اسما فى المقهى عند النادل والزبائن وماسح الأحذية وبائع الجمبرى المسلوق وبائع السميط والجبن الرومى، واسما عند شيخ الحارة وعسكرى الدورية والمسحراتى. كنت شيئا».
●●●
استمعت إلى أطراف الحديث صديقة كانت حاضرة واستأذنت لتتدخل فقالت «كنت أسكن فى بيت لا يخلو يوم فيه من لقاء طويل يجمع أمى بجارة أو أخرى. يتداولن فيما تداولنه فى اليوم الفائت ويتبادلن الشكاوى عن خادمة فى العمارة يغازلها المكوجى وأخرى تنتظر باللهفة قارئ عداد الكهرباء. ولم يكن ليفوتهن ممارسة قليل من النميمة، وغالبا ما كان موضوعها الأثير إنجازات «سى السيد» أو طباعه الحامية. كانت كل ساكنة وساكن فى هذا المبنى لها اسم وشكل وحكاية.. كنت واحدة منهم. كنت شيئا».
●●●
تدخَّل صديق ثالث معززا حديث الآخرين وملقيا باللائمة على التطور نحو الحداثة وعلى التقدم التكنولوجى فقال: «أنا أيضا كنت شيئا. كنت اسما لشخص بلحمه ودمه وعقله. يطلبوننى للاستفادة بما أنفرد به من خصال أو علم أو جمال صورة أو أصالة منبت. لم أكن، كما أنا اليوم، اسما فى قائمة جاهزة دوما لحضور ندوات والجلوس أمام كاميرات. يدعوننى وكثيرين غيرى ليضمن المنظمون امتلاء القاعة. مجرد اسم فى الغالب لم يسمعوا به من قبل ولكن موجود فى قائمة أسماء بلا مضمون، بدليل أنهم إذا لم يجدونى سينتقلون بدون تردد من رقمى فى الترتيب إلى الرقم التالى فى القائمة. أنا فى النهاية رقم فى قائمة تليفونات».
●●●
اندفعت رفيقتنا فقالت، لست وحدك. أنا ايضا رقم بل أرقام. أنا رقم فى مصلحة الضرائب ورقم على رخصة القيادة ورقم قومى ورقم على بطاقة ائتمان ورقم فى شركات الطيران. يرن هاتفى فاسمع غزلا أو تحرشا من رجل وأحيانا من طفل لا يعرف من يغازله أو يتحرش به، فقد اختارا رقما ليتحرشا به. لم يخترنى أيهما اسما أو شكلا.
●●●
معذورون أصدقائى وصديقاتى، فالإنسان يحب أن يكون مطلوبا أو مرغوبا لشخصه، أى لشكله أو لذكائه أو لخفة ظله أو لطلاقة لسانه أو لأناقته. الفرد منا يحب أحيانا، بل غالبا، أن يلاحظ الناس وجوده. أليس هذا هو ما يفعله الطفل حين يغضب إذا تركه الأهل يواصل اللعب بمفرده. وهكذا تفعل المرأة. تقلق اذا غادر الحاضرون المكان ولم يلاحظ أحد منهم آثار الجهد الذى بذلته لتبدو مختلفة. وهكذا يفعل الشخص، رجلا كان أم امرأة، إذا شارك فى محاضرة أو إجتماع برأى أو مداخلة تعامل معها المشاركون بإهمال وانشغلوا عنه بتناول المرطبات أو البحث عن رقم آخر على هواتفهم المحمولة.
●●●
الإطراء مهم. وليس كل إطراء نفاقا وبخاصة الإطراء الموجه للنساء. كلمة واحدة تمتدح طبقا أعدته سيدة بيت أو تثنى على ذوقها فى ترتيب بيتها أرفع قيمة عند الكثيرات من هدية مادية. ولكن ألا يلفت النظر هذا الشغف المتزايد عند كثيرين بمعرفة رأى الناس فيما يفعلون؟ لماذا هذه اللهفة المفرطة لديهم لسماع الاطراء؟ كيف نفسر الحاجة الملحة لأن يلاحظهم الآخرون؟. هناك إجابتان بين إجابات لا شك متعددة، إما أن هؤلاء يشعرون فعليا بأن أهمية كل منهم تدهورت وفقدوا الثقة فى أنفسهم كأسماء لها قيمة فصاروا يسعون وراء الإطراء والإعجاب، أو أنهم تأقلموا مع دورهم الجديد فى الحياة كشخصيات رقمية وأجادوه إلى درجة انهم صاروا ينتظرون من الآخرين «الرقميين مثلهم» الاعتراف بهم وإغراقهم بالإطراء والإعجاب.