ربما سيؤرخ العدوان الإسرائيلى الحالى على غزة (والذى اختير له اسما توراتيا هو عمود السحاب) للكثير من التغييرات على أكثر من صعيد، داخليا على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، وإقليميا ودوليا من ناحية ميزان القوة بين العرب والإسرائيليين.
●●●
ففى الداخل اختار نتنياهو القيام بعمل عسكرى لم تكن «إسرائيل» مضطرة إليه بالنظر إلى أن تفاهما على وقف إطلاق النار تم التوصل إليه قبل ساعات من العدوان. لقد أراد نتنياهو أن يقفز على مصاعبه الداخلية عشية الانتخابات بعد إعادة انتخاب أوباما وخسارة رهانه على رومنى، مستهدفا طرح الأجندة الأمنية على الساحة الانتخابية وتوظيفها لصالحه بعد أن كانت الانتخابات تدور حول الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية بالأساس. وهذا اختيار غير مضمون النتائج عشية الانتخابات، فأى عملية عسكرية عادة تعرف بدايتها لكن لا تعرف نهايتها، والدعم الشعبى لها قد يتراجع مع ارتفاع تكلفتها البشرية والاقتصادية.
قد يفيد التصعيد نتانياهو لو جاءت النتائج لصالحه وحققت العملية الأمن وأنهت خطر الصواريخ، لكن هذا أمر مشكوك فيه بالنظر إلى التطورات العسكرية للمقاومة التى قد تؤدى إلى اختفاء نتانياهو سياسيا، وبالنظر إلى التاريخ القريب أيضا، فبيغن استفاد انتخابيا عام 1981 بعد قصف المفاعل العراقى قبل أسابيع من الانتخابات، لكنه فقد منصبه بعد تزايد أعداد القتلى الإسرائيليين بلبنان عام 1983، وبيريز فشل بعد عملية عناقيد الغضب بلبنان 1996، أما أولمرت فقد استفاد انتخابيا من اعتداء الرصاص المسكوب عام 2008 لكنه لم يشكل الحكومة.
●●●
لكن هذا التوظيف الانتخابى للحالة الأمنية لا يعنى غياب أى أسباب موضوعية للعدوان، فالإعداد العسكرى للاعتداءات أمر مستمر ويتناسب مع طبيعة دولة الاحتلال ذاتها، لكن الجديد هو أن نتنياهو، الذى انتقد أولمرت مرتين لشنه حربين بالسابق، أقدم عشية الانتخابات على شن عملية عسكرية بهدف أقل طموحا وهو وقف صواريخ حماس وليس القضاء على حماس ذاتها أو القضاء على «الإرهاب»، كما فى المصطلح الإسرائيلى، وفى ظل أوضاع اقتصادية صعبة.
وفى الصحافة الإسرائيلية أحاديث عن إعادة النظر فى استراتيجة التعامل مع حماس والترويج لفكرة «حل الدول الثلاث» بدلا من «حل الدولتين»، وذلك لتعميق الانقسام الفلسطينى والتمهيد لتوجيه حرب شاملة على غزة. تدعو الفكرة للتعامل مع حماس كقيادة شرعية لغزة، والنظر لغزة كدولة أمر واقع، ثم التعامل معها ككيان معاد وإيقاف مدها بالكهرباء والغاز، مقابل الاستمرار فى التفاوض مع السلطة لإنشاء دولة فلسطينية بالضفة.
اقتصاديا، قد تؤدى إطالة أمد العدوان وتطويره إلى حرب برية لتعميق الأزمة الاقتصادية الحالية وتصاعد الغضب الشعبى. فالعملية تأتى فى ظل عجز كبير بالميزانية التى فشلت الأحزاب فى إقرارها لعام 2013 وكانت أحد أسباب اللجوء إلى الانتخابات المبكرة. وقد أوردت صحيفة يديعوت أحرونوت أن تكلفة الحرب تعتمد على عدد أيامها، وأن تكلفة اليوم الواحد نحو 1.5 مليون شيكل (نحو400 مليون دولار)، بجانب التكاليف الأخرى الناتجة عن التكلفة المدنية وخسائر البورصة والسياحة وغيرها.
●●●
وعلى المستويين الإقليمى والدولى، تؤرخ القوة العسكرية للمقاومة لمرحلة جديدة فى الصراع، لأنها تغير تدريجيا موازين القوة العسكرية وتثبت فشل الخطط الإسرائيلية لتصفية المقاومة. فلأول مرة فى تاريخ الصراع تستطيع المقاومة اسقاط طائرة استطلاع وطائرتين عسكريتين، ولأول مرة تصل صواريخ المقاومة المحلية الصنع وصواريخ فجر5 الإيرانية إلى تل أبيب والقدس. بجانب فشل نظام القبة الحديدية (الذى يستهدف صد صواريخ المقاومة قصيرة المدى والمعروف بالقبة الحديدية) فى صد نحو 75 بالمائة من الصواريخ التى أطلقتها المقاومة حسب الأرقام المعلنة من الطرفين. ولهذا تداعيات اقتصادية أيضا بالنظر إلى التكلفة المرتفعة له، وإلى تمويل أمريكا لجزء كبير منها.
هذا التطور العسكرى لابد أن يواكبه، على المستوى السياسى، مجهود عربى وإقليمى يسهم فى تغيير ميزان القوة السياسى بالمنطقة، فالموقف المصرى هذه المرة بدأ من سقف أعلى (سحب السفير والقيام بزيارة غير مسبوقة) وهذا أمر إيجابى للغاية، لكنه يحتاج إلى خطوات تكميلية من مصر ذاتها ويحتاج إلى دعم عربى وإقليمى.
لا يمكن الاستمرار فى رفع عبارات تنتمى إلى نظام إقليمى يتهاوى، مثل «الوصول إلى سلام عادل وشامل» أو تحقيق «هدنة بين الطرفين»، ولا يمكن الاستمرار فى الرهان على الغرب وأمريكا أو السعى لتهدئة طويلة المدى تلزم المقاومة بوقف إطلاق الصواريخ دون ثمن حقيقى، لأنه يبدو أن الإسرائيليين يسعون فعلا إلى هذه التهدئة بضمانة مصرية، وذلك حتى توقف خطر الصواريخ وتحقق ما فشلت فيه عسكريا وحتى تقيد مصر وحماس باتفاق جديد.
●●●
المطلوب الآن من حكومة الثورة فى مصر أن تتصرف فى ضوء الأوضاع الإقليمية الجديدة، وتسهم فى تغيير ميزان القوة بين العرب والإسرائيليين، وتساعد المقاومة العسكرية برفع سقف سياستها الخارجية تجاه الصراع بأكمله، وحسنا ماجاء على لسان سفير مصر برام الله بأن مصر ليست وسيطا وإنما تقف فى الجانب الفلسطينى.
المطلوب استخدام الزخم الثورى والضغط الشعبى فى إعادة تعريف الصراع على حقيقته (احتلال أرض وتهويدها، حقوق مسلوبة، انتهاك القانون الدولى والقوانين الأمريكية المنظمة لتصدير السلاح للخارج، سن قوانين عنصرية على أساس دينى، حق تعويض الفلسطينيين والمصريين واللبنانيين والسوريين والأردنيين عن سنوات الاحتلال، خطاب صهيونى يزيف الحقائق فى الغرب..)، ثم التحرك لفرض هذه السياسة دبلوماسيا وشعبيا وإعلاميا ودفع الإسرائيليين دفعا إلى الدفاع عن أنفسهم.
ويجب ألا تسعى مصر إلى تحقيق مصالحة سياسية فقط بين حماس وفتح، وإنما إلى تشكيل جبهة تحرير وطنى فلسطينية تتكامل فيها الأدوار الدبلوماسية والعسكرية والإعلامية، بجانب إقامة جبهة إقليمية من مصر وتركيا وربما إيران، ووضع كل الدول العربية الأخرى، وعلى رأسها السعودية، أمام مسؤوليتها التاريخية فى دعم المقاومة ومصر وتجاوز المبادرة العربية للسلام التى قدمت ضمن نظام إقليمى مختل.
ويتطلب هذا تحركا رسميا وشعبيا فى الغرب، فرسميا لابد أن يتم ربط مصالح الحكومات الغربية بالمنطقة بتطورات الصراع، وإبراز ازدواجية الغرب الذى يضخم المخاطر الأمنية الإسرائيلية ويمنح الإسرائيليين دعما معنويا وماديا للدفاع عن نفسها مقابل تجاهل حقيقة الصراع وحقوق الشعب القابع تحت الإحتلال، وإظهار ما سيترتب على هذه الازدواجية من نتائج سلبية على مصالحها بالمنطقة وخاصة فى ظل التحركات الشعبية الراهنة. وعلى المستوى الشعبى والإعلامى يجب رعاية وتشجيع مبادرات تفضح الممارسات الإسرائيلية أمام شعوب العالم وخاصة بالغرب لتعبئة الشعوب هناك ضد مواقف حكوماتهم ودفع هذه الحكومات دفعا إلى إعادة النظر فى مواقفها.
وأين سلاح المقاطعة؟ بعد ساعات من العدوان على غزة قام اتحاد طلاب جامعة كاليفورنيا بإيرفاين بتمرير قرار بالاجماع يطالب الجامعة بسحب الاستثمارات من الشركات التى تتعاون مع الاحتلال بالسلاح أو ببناء وحماية الجدار أو ببناء المستوطنات. أين مؤسساتنا الرسمية والأهلية من هذا؟
*****
المطلوب اختصارا هو أن يتحول العرب من مجرد المطالبة بتوقف العدوان إلى اتهام المعتدى بما يستحقه وبما يدفعه إلى الدفاع عن نفسه، وبما يخلق واقعا جديدا أمام المدافعين عنه فى أوروبا وأمريكا. أمران يقلقان كثيرا دولة الاحتلال: فضح ممارساتها العنصرية والاستعمارية أمام شعوب الحكومات التى تدعمها، ومقاطعتها اقتصاديا. لسنا بحاجة فى هذه المرحلة إلى تحريك الجيوش وإنما إلى تشغيل العقول.