تعتبر حرية المرأة والارتقاء بوضعيتها الاجتماعية موضوعًا محوريًا للمناقشات العامة والدراسات الأكاديمية، التى تهتم بقضايا الحداثة والتقدم، لا سيما فى مجتمعات العالم الثالث التى لم تزل تعيش إشكاليات حقوق النساء وتطرح فيها العديد من التساؤلات بخصوص تحديد الإطار القانونى الذى تندرج فيه، وسياقه الثقافى، فضلًا عن الخصوصية التاريخية التى تحدد طرق تأويلها وكيفية تحديد مضامينها حتى لا تتعارض مع المرجعيات القيمية لهذه المجتمعات.
أمام موجة العولمة وهيمنة النيوليبرالية التى أدت مخرجاتها الاقتصادية والسوسيو ثقافية إلى بروز الحركة النسوية كفاعل سياسى، أصبحت هذه الأخيرة تعد مكونًا أساسيًا للحركات الاجتماعية الجديدة، بحيث امتد تأثيرها الإيديولوجى ليشمل جل بلدان العالم.
حددت الناشطة النسوية الأمريكية بيل هوكس الهدف الأساس لهذه الحركة فى إنهاء التمييز والاضطهاد على أساس الجندر (النَّوع)، وانطلاقًا من هذا التصور تتجلى طبيعة فعلها فى الدفاع عن المرأة من خلال الاعتراف بها كعضو فاعل داخل المجتمع يتوفر على الحقوق نفسها التى يتمتع بها الرجل. ولا يُمكن فهم أهداف الحركة النسوية من دون إدراجها فى سياق التحولات الثقافية المؤسسة لإطار اجتماعى جديد يضع حدًا للهيمنة الذكورية وللتهميش الاقتصادى الذى ظلت المرأة ضحية له عقودًا طويلة من الزمن.
ما يجدر بنا حقًا ذكره والتنبيه إليه، هو أن الأفكار النسوية باتت تشكل مؤشرًا لبناء مرجعية قيمية جديدة تُزعزع التصورات المألوفة حول الأدوار الاجتماعية لكل من الرجل والمرأة، وتُسهِم بالتالى فى صوغ قوالب لغوية تعيد الاعتبار للعنصر النسوى داخل منظومة الخطابين القانونى والسياسى. وهذا ما تعكسه لغة الدساتير والنصوص القانونية والتنظيمية المعمول بها، حيث أضحت المساواة مع الرجل قاعدة إلزامية تمنح بموجبها المرأة الحق فى ولوج المناصب العليا والاستفادة من مختلف الحقوق الدستورية. على هذا النحو تمكنت المرجعية النسوية من نيل الاعتراف بعالمية حقوق النساء بعدما كانت محدودة إلى حد كبير أو منكرة، باعتبارها من خصوصيات الأسرة أو المجتمع أو الثقافة أو الدين.
• • •
بيد أن المطالبة بإنصاف المرأة التى أضحت تأخذ بُعدًا كونيًا، تخفى فى ثنايا تفاصيلها الكثير من التناقضات التى تفسرها طريقة التعاطى معها داخل كل بلد على حدة وطبيعة الاستراتيجيات السياسية والإيديولوجية التى تنتهجها التيارات النسوية من أجل تحقيق أهدافها، ناهيك بالمصالح المادية التى يجنيها التوجه النيوليبرالى من خلال استغلاله المقنع للنساء، وذلك نتيجة نجاح خطابه الإيديولوجى فى إقناع الحركات النسويّة بأنه مدافع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمرأة. لكن المفارقة تتمثل فى انعكاسات السياسات النيوليبرالية على الوضعية السوسيو اقتصادية للنساء التى تتجلى أساسًا فى ارتفاع نسب البطالة والفقر، إضافة إلى طول ساعات العمل والأجور الهزيلة التى تتقاضاها النساء العاملات فى الوحدات الصناعية أو مراكز الخدمات والتى تجسد أحد أهم أشكال العبودية الجديدة للمرأة.
تتطلب دراسة دينامية الحركات النسوية وتأثيرات أفكارها الاجتماعية الأخذ بعين الاعتبار لجذروها التاريخية والثقافية الغربية، ونُبرر ضرورة استحضار هذا المعطى بالعودة إلى الآثار السلبية للمركزية النسوية الغربية على تطور حقوق المرأة فى مجتمعات العالم الثالث؛ بحيث قامت بعض الفاعلات النسويات بمواجهة تصورات الأفكار النسوية الغربية بالكثير من الشك، لأنها تُعيد إنتاج عقدة المُنقذ الأبيض، كما برز ذلك بشكل رئيس فى كتابات الباحثة من أصول هنديّة «جيائرى سبيفاك» التى تميزت بانتقادها للهيْمَنة النسوية الغربية، حيث أشارت إلى هذا بقولها: «الرجل الأبيض فى مهمة لإنقاذ النساء السمر من الرجل الأسمر» (جيائرى سبيفاك، 2003).
• • •
لعل هذا الإشكال ناتج فى الأساس عن هيمنة الأفكار التى أنتجها الغرب حول الحرية والمساواة، ومحاولة إسقاطها على مجتمعات ذات خصوصية ثقافية متميزة وواقع اجتماعى مختلف. وينبغى النظر بشكل نقدى للكثير من الأفكار والبرامج والتصورات التى يكون مصدرها الغرب، وذلك لعدم حيادها القيَمى، إضافة إلى ما لها من تأثيرات سلبية على مستقبل تقدم مجتمعات العالم الثالث. ونود هنا أن نوضح فكرة أساسية هى أن الدفاع عن حقوق المرأة هو مطلب مشروع، لكن فقط بموازاة توفر هذه المجتمعات على مناعة ثقافية تحميها من الوقوع فى التقليد الأعمى للنموذج الغربى، وبالتالى يجب التعاطى مع عولمة الأفكار النسوية بشكل خاص وحقوق الإنسان بصفة عامة وفق مقاربة براغماتية تهتم بالطابع الإنسانى للقيم والحقوق النسوية؛ وما ذلك إلا لتلافى أن ينتج عن ذلك استلاب ثقافى يجعل من حقوق النساء فى العالم الثالث قناعًا إيديولوجيًا، ومُبررًا سياسيًا لإعادة إنتاج عقلية استعمارية تعتبر أحد أهم أسباب تخلف دول العالم الثالث.
• • •
إن الاختلافات الثقافية والتاريخية بين العالم الغربى والعالم غير الغربى يجب ضبطها بحسب تصور ينطلق من استغلال المشترك الإنسانى واحترام الاختيارات المحلية التى تعكس إرادة المجتمعات فى بناء نموذجها الحضارى الذى يتضمن فى ما يتضمن الحقوق والحريات. ومن الواجب فى هذا الإطار إعادة فهم طبيعة العلاقة القائمة بين التفوق الثقافى للغرب ومحاولة فرض العالم غير الغربى رؤيته لحقوق المرأة وحريتها، كى تتمكن الحركات النسوية والمدافعون عن حقوق المرأة من بلورة تصور محلى لا يتنكر للبعد الإنسانى والعالمى للحقوق، ولكن فى الوقت نفسه لا يسقط فى فخ تدعيم أسس العقلية الاستعمارية التى تتغذى من مورد التفوق الثقافى والاستعلاء التاريخى للعالم الغربى.
وإذا سلطنا الضوء على واقع حقوق المرأة فى العالم العربى، فإننا نجد أن وصف هذا الإشكال لا يخرج عن إطار ما تطرقنا إليه سالفا والمرتبط بصدام القيم الثقافية والدينية مع قيم المركزية النسوية الليبرالية الغربية. فاختلال توازن القوى واستمرارية التبعية للغرب، ناهيك بتخلف المجتمعات العربية، هى عوامل أسهمت فى غوص هذه المجتمعات فى وحل التحديث والتشرذم القيمى، ما أعاق مسار ارتقائها بحقوق المرأة، مثلما جعل دينامية الحركات النسوية تصطدم بتناقض بنيوى بين القيم الليبرالية المستوردة والنصوص الدينية القطعية مثلًا فى مسألة المطالبة بالمساواة فى الإرث بين الجنسين.
يعد إصلاح قانون الأسرة فى المغرب ودول العالم العربى مؤشرًا واضحًا على إشكال تاريخى يتجاوز التحليل الشكلانى أو القانونى ليلامس أبعادًا مختلفة تهم بالأساس سبل تحديث المجتمعات العربية من دون المساس بثوابث هويتها الثقافية، التى يعتبَر المقوم الدّينيُّ أحد دعائمها الأساسية. ومما زاد من تعقد مسألة بناء نموذج عربى للحداثة الاجتماعية فشل كلّ المحاولات التاريخية والفكرية الرامية إلى تحقيق هذا الهدف، وذلك منذ ظهور المشروعات الإصلاحية، ولاسيما فى مصر فى عهد محمد على وما تلاها من جهود فكرية قام بها ثلة من المفكرين كقاسم أمين وسلامة موسى ولطفى السيد على سبيل المثال لا الحصر. لقد أسهم عدم نجاح المشروعات الإصلاحية الرامية إلى الارتقاء بمكانة المرأة عبر تأويل تقدمى للمرجعية الدينية فى تراكم العوائق وتواصل الفشل التاريخى للمجتمعات العربية التى أصبحت اليوم تقف فى مواجهة عولمة كاسحة ونيوليبرالية متوحشة تشجع على انتشار الانحلال الأخلاقى.
يبقى السؤال الرئيس قائمًا والمتمثل فى تحديد مدى قدرة المجتمعات العربيّة، ومن خلالها الحركات النسوية وفعاليات المجتمع المدنى، على بناء مشروع حداثى محلى يُراعى شرط الخصوصية ويلتزم فى الوقت نفسه بمبدأ كونية حقوق المرأة؟ إن الجواب عن هذا السؤال يبقى مرتبطًا بالجواب عن سؤال تاريخى متعلق بشروط النهضة والتقدم التى لم تسهم التبعية العمياء للغرب والتأويل السلطوى والمحافظ لقواعد المرجعية الإسلامية إلا فى إعاقة تحقيقها.
حسن الزواوى
مؤسسة الفكر العربى