انتقد بعض القراء الكرام بشدة مقالا سابقا لى اقترحت فيه على الإخوان أن يعودوا إلى ثكناتهم الدعوية وأن يركزوا على التربية مادامت محاولاتهم السياسية أدت إلى عكس ما كانوا يرغبون ابتداء. وكانت الحجة الأساسية للكثير من الناقدين هو أن انسحاب الإخوان من الحياة السياسية يتناقض مع نصرة شعارى «الإسلام هو الحل» و «الحل الإسلامى». وهما شعاران يحتاجان إلى شىء من التأمل.
يظن بعض المسلمين، بحكم مفارقة اعتزازهم بالإسلام وجهلهم بمنهجه، أن هناك طريقة «إسلامية» لعلاج كل مشكلات المجتمع، وكأن المسلم ليس إنسانا يخضع لما يخضع له غيره من البشر من قواعد وإنجازات. وعلى هذا يظن بعض هؤلاء أن هناك طريقة إسلامية لعلاج مشكلات التصحر والمجاعات والجريمة المنظمة، وهناك تنمية بالإيمان، وهناك حل إسلامى لكل مشكلات المسلمين. ومثل هذه الطريقة فى التفكير تحوى الكثير من العاطفة أكثر مما تحمل من رؤية ناضجة لحاجات البشر للتفاعل والتعلم المتبادل. فشعار «الإسلام هو الحل» أقرب إلى قول أحدنا البحر فيه كنز أو أن الأرض فيها خير.
نظريا أعتقد أن المسلم يستخدم لفظة «إسلامى» ليعنى أمرا من ثلاثة. فهو إما يعنى «إسلامى» أى ابتدعه الإسلام على غير مثال سابق، وهى دائرة شديدة الضيق لا تنهض بمصالح العباد. أو ثانيا «إسلامى» بمعنى أنه من فضائل الأعمال التى وجدت قبل الإسلام وحض الإسلام عليها وجعلها منه بالتوظيف دون الابتكار، وهى دائرة أوسع كثيرا من الدائرة الأولى. أو ثالثا «إسلامى» بمعنى أنه لا يتناقض مع ما هو قطعى الدلالة والثبوت من مبادئ الإسلام، وهى دائرة أوسع من سابقتيها، بل وينبغى أن تزداد اتساعا بحكم التطور الفكرى والتكنولوجى الذى نعيشه.
المعنى الأول لـ«الإسلامى» أى الذى ابتدعه الإسلام على غير مثال سابق يحسر الإسلام حسرا معيبا يجعل من الإسلام دينا يرفض التكنولوجيا والتطور ومنجزات الحضارة المعاصرة، بحكم أن الإسلام هو ما نطق به الشرع صراحة وما دون ذلك «خارج عن الإسلام متناقض معه». والمسلم العاقل يعلم أن أغلب ما جاء به الإسلام ليس من ابتكاره وإنما هو استمرار لما كان سابقا عليه. فنحن نعلم مثلا أن الصيام كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا وكذا الصلاة والجهاد وتعدد الزوجات بشرط العدل معهن إلى آخره. حتى عقيدة التوحيد تنسب إلى آدم عليه السلام، وتسمية الإسلام نفسها تنسب إلى أبينا إبراهيم الذى سمانا المسلمين من قبل. لكن لا شك مثلا أن هيئة الصلاة التى يصلى عليها المسلم وتفاصيل الوضوء والحج وحدود العقوبات الشرعية هذه كلها تفصيلات ابتدعها الإسلام على غير مثال سابق.
وقد رفض منطق حصر الإسلام والحل الإسلامى فى حدود منطوق النص الدينى من قرآن وسنة. فهذا الرسول الكريم يقول لأحد أصحابه: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب فيهم حكم الله أم لا،» رواه مسلم.
إذن فأنت لا تدرى حكم الله وحكم رسول الله فى أمور الحكم والسياسة وإنما أنت تجتهد، ويجوز أن يكون اجتهادك متفقا مع صحيح الإسلام أو يتناقض معه بحكم أن البشر لا يستطيعون، إلا ظنا، أن يفقهوا عن الله مراده. فكيف يستطيع بشر أن ينسب لنفسه أنه يعرف «الحل الإسلامى» أو حدود الخروج عن الإسلام فى أمور يغلب عليها الاجتهاد والمصلحة المرسلة؟
وهذا أبو الوفاء بن عقيل الحنبلى الذى عرف السياسة الشرعية على أنها «هى ما يكون فعلا معه الناس أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول أو ينزل به الوحى»، وقد رد عليه فقيه شافعى بقوله: «لا سياسة إلا ما وافق الشرع»، فقال له ابن عقيل «إن أردت بقولك ما وافق الشرع أى لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن»... أى أنك إذا كنت تقصد أن «الإسلام هو الحل» بمعنى أن الحل هو ما نطق به الإسلام فغلط لأنه من المتوقع أن يأتى المسلمون بحلول لم تقل بها نصوص الشرع الشريف بل على العكس، وكما يقول ابن عقيل فإن الخلفاء الراشدين أتوا من المستحدثات ما لا يمكن إنكاره مثل قتال أبى بكر للمرتدين رغما عن أنهم ينطقون الشهادتين عكس أمر الرسول بألا نقاتل من نطق بهما، وجمع عمر الناس فى صلاة التهجد ونفيه نصر بن حجاج وتوزيع الأراضى المفتوحة على أساس ما جاء فى آيات سورة الحشر، رغما عن صراحة النص والعمل الملازم له بآيات سورة الأنفال، وجمع عثمان الناس على مصحف واحد ولم يكن هذا على عهد الرسول الكريم، وتحريق على للزنادقة فى الأخاديد، رغما عن النهى باستخدام هذه العقوبة، بل فى تجميع أقوال الرسول فى كتب السنن رغما عن وجود حديث ينهى عن ذلك.
إن مساحة ما ابتدعه الإسلام على غير مثال سابق ضيقة للغاية حتى فى أمور المعاملات ولنأخذ مثلا مفهوم الشورى «الإسلامية» الذى يقدمه البعض بديلا عن الديمقراطية «المستوردة.» فنحن نعلم بيقين أن قصى بن كلاب الجد الخامس للرسول محمد (ص) هو الذى أنشأ دار الندوة كى تتشاور قريش فى شئونها. ونحن نعلم بيقين أيضا أن الرسول جاء على فترة من الرسل لقوم خلا فيهم نذير وبالتالى فلم تكن دار الندوة استجابة لتوجيه إيمانى. كما نعلم أن بلقيس ملكة سبأ قبل أن تسلم مع سليمان لرب العالمين قررت ألا تقطع أمرا حتى يشهد (أى يشير عليها) أهل الرأى فى مملكتها. أى أن الشورى «الإسلامية» هى إسلامية بالحض والاستيعاب وليس بالابتداع والإنشاء. ولو عاش الرسول الكريم فى غير زمانه أو عرف العرب الأولون آليات الديمقراطية الأثينية لربما ذكرها لنا القرآن أو مورست بتفصيل أكبر. وهذا ليس بغريب فكان المسلمون الأوائل يعلمون أنهم يهتدون بكتاب جامع ومنهج شامل يقول لهم: «ما فرطنا فى الكتاب من شىء» ويقول لهم أيضا: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» فلا تفهم الآية الأولى إلا فى إطار فهم الثانية.
إن من يكتفى بالآية الأولى يفترض أن كتاب الله سيكون عند الكيمائيين كتابا فى الكيمياء، وعند الرياضيين كتابا فى الرياضة وهكذا. وهذا ليس بصحيح. فهو كتاب فى العقيدة والأخلاقيات أساسا. وخلا هذين المجالين، فكل شىء يمكن أن يكون إسلاميا بسؤال أهل الذكر عن الفائدة والضرر من قبيل: «أحل لكم طعام الذين أوتوا الكتاب.» لذا «سم الله وكل مما يليك.» لا فرق إن كنت تأكل ضأنا عربيا ممتلئ باللحم أو بيتزا إيطالية طالما أنها تخلو مما حرم الله كما قال الشيخ محمد الغزالى رحمة الله عليه. فالطعام فى الحالتين «إسلامى» لأنه لا يتناقض مع ما هو قطعى الدلالة وقطعى الثبوت من الإسلام.
ومن هنا لم يتساءل المسلمون عن طريقة إسلامية فى حفر الخندق بدلا من الطريقة الفارسية التى رواها سلمان الفارسى. ولم يرفض المسلمون الأوائل ركوب الجمال لأنها ليست «إسلامية». ولم يبحثوا عن منهج آخر غير منهج الشورى الذى مارسه غير المسلمين من قبل. ذلك أن أى حل لأى مشكلة لا يتناقض مع العقيدة والأخلاق فهو من الإسلام.
ولهذا فقد قبل ابن رشد الحق المكتوب فى كتب أهل الباطل مادام لا يتناقض مع ثوابت الدين من عقيدة أو أخلاق. فهل نرفض ديمقراطية تضمن الحريات وتعدد مراكز صنع القرار والتداول السلمى للسلطة لأنها غير مذكورة بلفظها وتفصيلاتها فى القرآن؟ الإجابة قطعا: لا. إن أى خير يحقق العدل للناس هو من الإسلام حتى وإن لم يأت به رسول أو ينطق به وحى كما قال ابن القيم رحمه الله. والله أعلم.
وعليه فإن الكون مفتوح لنا نحن المسلمين، «نؤسلم» فيه ومنه ما جعله الله لا يتناقض مع ثوابت ديننا من عقيدة وأخلاق.
وبالتالى ليس صحيحا أن منطوق الإسلام هو الحل أو أن هناك حلا إسلاميا يقوم على النص. ولكن هناك حل إنسانى يقبله الإسلام وبالتالى هو من الإسلام. وعلى هذا، فأنا أرفض على أساس دينى وفلسفى، وليس فقط سياسيا، رفع شعارات من قبيل «الإسلام هو الحل» أو «الحل الإسلامى» فالحل، أى حل لا يتناقض مع القرآن والسنة، إسلامى، أى أن ما يحل أى مشكلة نواجهها فهو من الإسلام، وعليه فقد يجرى الحل الإسلامى على لسان شخص ليبرالى أو ماركسى أو ناصرى. ألم يقل الرسول الكريم على قول الشاعر «لبيد» (كل ما خلا الله باطل) أنه من خير ما نطق به الشعراء رغما عنه أنه لم يكن مسلما. فكل حل يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح والعدل هو من الإسلام حتى وإن لم ينطق به الرسول العظيم أو جاء صراحة فى القرآن الكريم. هذا كلام من الماضى، لكنه يحتاج أن يكون جزءا من المستقبل.