كان موقف السلطة الفلسطينية قويا وحازما عندما رفضت استئناف المفاوضات مع إسرائيل فى غياب وقف كامل للاستيطان فى الأراضى المحتلة، وعندما اضطرت إسرائيل للإعلان عن وقف مؤقت للاستيطان لعشرة أشهر، لم تتزحزح السلطة الفلسطينية عن موقفها. غير أن موقف السلطة هذا ما لبث أن أصابه الوهن، فبدأت تتحدث عن الاستعداد للتفاوض إذا توقف الاستيطان لخمسة أشهر. لم أتفهم أسباب تخفيض مدة التجميد إلى نصف ما أعلنته إسرائيل نفسها، اللهم إلا إذا كان القصد امتداد التجميد ليشمل القدس وهو الأمر الذى ترفضه إسرائيل. ثم ما لبث أن سمعنا عن استعداد للتفاوض ولكن بشكل غير مباشر. لم أتفهم أيضا الحكمة وراء ذلك إذا تذكرنا أن الفلسطينيين والإسرائيليين تفاوضوا وجها لوجه طيلة ما يزيد على ثلاثين عاما. كنت أتصور أن تطرح السلطة عوضا عن ذلك مشاركة أمريكية كاملة فى كل جلسات التفاوض وهو الأسلوب الذى أثبت نجاعته فى مفاوضات معاهدة السلام لعام 1979.
شعرت بأسف شديد عندما بدأ التردد، أو قل التراجع، يتسلل إلى موقف السلطة فى موضوع التفاوض، وأعتقد أنه لابد وأن تتمسك السلطة بموقفها المبدئى، وخصوصا فى ضوء ضغوط الرأى العام الدولى الجديدة التى بدأت تطبق على إسرائيل من كل جانب.
فعلى المستوى الدولى بدأت تداعيات تقرير جولدستون تستنفر الرأى العام فى مختلف الدول وتحدث قلقا شديدا لدى الأوساط الحاكمة فى إسرائيل. ووصل الحد ببعضهم إلى المساواة بين مخاطر التقرير ومخاطر إيران! ويقول روبرت فيسك فى صحيفة الإندبندنت البريطانية يوم 2 فبراير الحالى ومرة أخرى يوم 11، وكان قد حضر المؤتمر الذى عقد فى مدينة هرزيليا الإسرائيلية قبل ذلك بأيام قليلة وشارك فيه العديد من السياسيين والعسكريين والمسئولين، أن تقرير جولدستون كان على كل لسان باعتباره جزءا من حملة «الخداع» التى تتعرض لها إسرائيل ومحاولات سحب الشرعية عنها delegitimise (وهى التهمة الأحدث التى يوجهها الإسرائيليون لمنتقديهم بعد أن ملّ العالم ترديدهم تهمة معاداة السامية). أما جولدستون نفسه فهو خائن لدينه وناكر لملته (اليهودية)!. دفع ذلك أحد الكتاب الإسرائيليين وهو برادلى بيرتون إلى مهاجمة اليمين الإسرائيلى المتطرف بشدة فى مقال بصيحة هاآرتس يوم 3 الحالى ذاكرا أن قياداته «تريد أن تجعل من إسرائيل آخر معقل يهودى منعزل ghetto فى العالم وبالتالى تفقد القدرة على التواصل مع العالم الخارجى».
وإذا نحن نظرنا إلى مسار العلاقات بين إسرائيل والدول الأوروبية فليس من الصعب ملاحظة تعرضها لأزمة تلو الأخرى. تأزمت الأمور مع السويد عندما دافعت عن موقف صحيفة سويدية فضحت قيام الجنود الإسرائيليين باستئصال الأعضاء البشرية للشبان الفلسطينيين. واعتبرت إسرائيل النرويج أنها قد انحطت إلى أدنى مستوى عندما قررت سحب كل استثماراتها فى شركة إسرائيلية تشارك فى إقامة جدار الفصل العنصرى بالضفة الغربية. وفى بريطانيا أميط اللثام عن أساليب اللوبى الإسرائيلى غير القانونية فى التأثير على الأحزاب السياسية وعلى أصحاب القرار. وها هى إسرائيل تنزلق إلى أزمة جديدة وخطيرة مع كل من بريطانيا وأيرلندا وفرنسا وألمانيا، بعد أن حامت الشبهات بشدة حول ضلوع عملاء الموساد فى عملية اغتيال القيادى فى حماس محمود المبحوح التى جرت فى دبى يوم 19 يناير الماضى، باستخدام جوازات سفر مزيفة لهذه الدول، وانتحال شخصيات أصحابها. وفوق كل ذلك شكل القرار الصادر عن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبى يوم 8 ديسمبر الماضى صفعة قوية لإسرائيل بتأكيد الاتحاد أنه لن يعترف بأية تغييرات على خطوط ما قبل 5 يوليو 1967، مشيرا إلى أنه لم يعترف فى يوم من الأيام بضم إسرائيل للقدس الشرقية، وطالب إسرائيل بالتوقف التام عن ممارسة أنشطتها الاستيطانية بما فى ذلك ما تصفه إسرائيل بالنمو الطبيعى فى المستوطنات.
كفى حديثا عن الموقف الأوروبى لننتقل إلى موقف الرأى العام الأمريكى. حدث أيضا تطور ملحوظ حتى داخل أروقة الجماعات اليهودية وتركيبة اللوبى الإسرائيلى نفسه فى الولايات المتحدة. سبق أن أشار كاتب هذا المقال إلى ظهور لوبى إسرائيلى جديد يحمل شعار «تأييد إسرائيل مع تأييد دعاوى السلام». وحمل هذا اللوبى اسم J-Street. ويضم حتى الآن أكثر من 140 ألف عضو من جميع أنحاء الولايات المتحدة. كان من الطبيعى أن يناصب اللوبى الإسرائيلى التقليدى الذى تمثله منظمة الإيباك العداء للوبى الجديد ويعمد إلى التشهير به. غير أن هذا لم يفت فى عضد اللوبى الجديد، وأعلن المدير التنفيذى للمنظمة الجديدة يوم 5 فبراير الحالى أن منظمته لن تسمح بأن تبقى الجالية اليهودية أسيرة للتهديدات التى يطلقها هؤلاء الذين يسعون إلى إسكات أى صوت معارض. وتؤمن المنظمة الجديدة بضرورة وجود دولة تكون وطنا قوميا للشعب الفلسطينى، وتعيش فى سلام وأمان جنبا إلى جنبا مع إسرائيل. وتدعو إلى قيادة أمريكية نشطة لعملية إحلال السلام فى المنطقة، على اعتبار أن ذلك يصب أيضا بالتأكيد فى مصلحة الولايات المتحدة ذاتها. ويؤكد مدير المنظمة أنها ستواصل جهودها مع أعضاء الكونجرس وفى الجامعات والمعاهد الأمريكية من أجل ضمان التأييد للأهداف التى تسعى إليها المنظمة.
كلنا يعلم مدى التأييد الذى تحظى به إسرائيل داخل الكونجرس الأمريكى، غير أن هذه الظاهرة بدأت فى التراجع، ولو على استحياء وبقدر ضئيل حيث قام 44 عضوا فى مجلس النواب بتوجيه خطاب إلى الرئيس الأمريكى فى نهاية يناير الماضى يحثونه فيه على ممارسة الضغوط على إسرائيل لإنهاء حصارها الذى تفرضه على غزة، واعتبروا هذا الحصار بمثابة توقيع لعقاب جماعى على أهل القطاع. جدير بالذكر أن منظمة اللوبى الإسرائيلى الجديدة هذه J-Street انضمت إلى قائمة الموقعين على الخطاب المذكور. وقبل أنهى كلامى عما يحدث على الساحة الأمريكية لا بد من الإشارة إلى أن الكثير من الجامعات والمعاهد هناك تطالب الآن باتباع نفس الأساليب التى اتبعت لمناهضة النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا وبصفة خاصة المقاطعة الثقافية والاقتصادية.
ولنعد إلى مواقف الدول الأخرى من إسرائيل، تابعنا جميعا بكل الإعجاب المواقف التركية تجاه إسرائيل سواء برفض المشاركة فى مناورات عسكرية معها، أو انسحاب رئيس الوزراء التركى من إحدى جلسات ندوة دافوس، أو إجبار إسرائيل على الاعتذار عن تصرفاتها تجاه السفير التركى لدى إسرائيل. وهناك دول عديدة أخرى اتخذت مواقف مشرفة مثل فنزويلا، التى قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل احتجاجا على عدوانها على غزة، وبوليفيا الذى حذت حذوها، بل طالبت بمحاكمة القادة الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية.
لقد أصبح الإسرائيليون مطاردين أينما حلّوا، حيث تلاحقهم الأوامر القضائية التى تطالبهم بالمثول أمام محاكم الدول التى تأخذ بمبدأ الولاية القانونية الدولية الشاملة. ويحرص الإسرائيليون الآن على الحصول على وعود مسبقة من الدول الأوروبية تنجيهم من المثول أمام المحاكم، بل وتحث إسرائيل هذه الدول على تعديل القوانين المتعلقة بالولاية الدولية. أما إذا أفلت الإسرائيليون من المحاكمة، فإن أصوات الاحتجاج تلاحقهم أينما وجدوا. تعرض إلى ذلك نائب وزير الخارجية الإسرائيلية دانى ألون فى جامعة أكسفورد يوم 8 فبراير الحالى، وقوطع السفير الإسرائيلى أكثر من عشر مرات وهو يلقى خطابا فى جامعة كاليفورنيا، بالمصادفة فى نفس التاريخ، حيث تعالت الصيحات فى وجهه مردده «قتلة» و«كم قتلتم من الفلسطينيين؟».
إذن فالأرض تميد من تحت أقدام قادة إسرائيل. إسرائيل تكسب العداوات يوما بعد يوم، والوقت بالقطع ليس فى صالحها.
لذلك علينا التمسك بمواقفنا، وألا نستجيب للضغوط أو الإغراءات أيا كانت حتى لا ندخل فى عملية عبثية جديدة. لا تستهدف إسرائيل منها إلا خلق الانطباع أن القافلة تسير. لكن علينا فى نفس الوقت أن نقوم بتفعيل ما تحت أيدينا من أدوات ووسائل لتضييق الخناق على إسرائيل إلى أن تستجيب إلى صوت الحق والعدل. لابد من تفعيل رأى محكمة العدل الدولية بالنسبة لعدم شرعية الجدار العنصرى الفاصل وضرورة إزالته، وألا نكتفى بالاحتفاء به. علينا أيضا متابعة تقرير جولدستون إلى أن يصل إلى منتهاه بإحالة مرتكبى الجرائم الإسرائيلية إلى المحكمة الجنائية الدولية على أساس أن إسرائيل لم تجر التحقيقات المستقلة المطلوبة منها والتى تتفق مع المعايير الدولية.
وأخيرا وليس آخرا لابد من تفعيل المبادرة العربية ومحاصرة إسرائيل «بهجمة سلام» استنادا إلى المبادرة، لا أن نلوح بالتخلى عنها من وقت لآخر، لأنه ليس هناك من ينكر على العرب أنهم قد قدموا بمبادرتهم هذه أقصى ما يمكنهم تقديمه من أجل تحقيق الأمن والسلام فى المنطقة.