يرانا العالم الآن على صورتين: فى الأولى نبدو شعبا عظيما حقق بصموده ووحدته على مدى ثمانية عشر يوما ثورة سلمية عظيمة، وفى الثانية، جماعات من الغوغاء تتبادل السباب والعراك لأتفه الأسباب، وتتحاور بالحجارة والطوب والمولوتوف، ونخب سياسية وثقافية تتشدق بالحديث عن الديمقراطية وقبول الآخر، وتمارس على الأرض كل أشكال الاستعلاء والنفى والإقصاء.
وعليه، أريد أن أستثمر هدنة المليونيات لأطرح هذا السؤال الفلسفى المستفز: هل نحن شعب متمدين؟
قبل أن تسرع فى الإجابة ألفت انتباهك إلى أن مدنية الدولة التى اتفقت عليها جميع الأطياف السياسية، اسلامية وليبرالية ويسارية، تعنى رفض السلطة الدينية (حكم رجال الدين) والسلطة العسكرية (حكم العسكر)، لكنها لا تعنى أن الأشخاص الواقعين تحت ظلالها متمدينون بالضرورة، لأنه لا التشريعات السياسية ولا البنية المؤسسية تضمنان وحدهما تحقيق المدنية، فالمدنية تحققها قدرة الشعب على تحقيق معدلات عالية من النمو تضمن له مستويات معيشة معقولة، فضلا عن شعور مستقر بالأمان ورؤية متفائلة بالمستقبل، ما يخلق ثقافة ووعيا ما داخل المجتمع، ويشكّله، أو يعيد تشكيله على نحو مدينى، فالتحول للمدنية مرتبط بتحقيق «فائض»، يعطى مساحات وفرصا أكبر للإبداع، يتجاوز سعى الناس لإشباع حاجاتها الأساسية.
من ناحية ثانية، فإن المدنية ليست جينات يولد بها الإنسان، كما أن وجودها فى مرحلة ما من حياة أى أمّة، لا يعنى أنها باتت صفة لصيقة بها، فهى يمكن أن تزول عنها لو فرّطت فى شروطها، وصعود شعوب من الهمجية إلى المدنية وانتكاس أخرى من المدنية للهمجية، حدث بلا انقطاع عبر التاريخ.
المدنية إذن خبرات مكتسبة ينقلها كل جيل للذى يليه، عملية تربية متواصلة، تتضافر فيها مكونات عدة من القيم والتقاليد والديانات وحتى الأساطير والحكايات، فإذا حدث ما يعوق انتقالها، فإن الأمة تكون قد وقعت فى «فجوة مدنية» تمهد لانتقالها إلى حالة ما من الهمجية.
وإذا كانت المدنية بحكم التعريف هى بنت المدينة، فإنها تبدأ فى حقول الفلاحين وبساتين الريف، قبل أن تزدهر فى مداخن المدن الصناعية، فإذا رأيت شعبا يفرّط فى أرضه الزراعية ويبدد مصادر غذائه، فاعلم أنه مازال بعيدا عن المدنية.
المدنية أخيرا تعنى فى جزء كبير منها رقة المعاملة، وأرجو أن تلاحظ أن حروفهما تقريبا واحدة فى اللغة الإنجليزية (civilization- civility)، وحيث يتراجع الذوق والإحساس العام والعطف والتعاطف والتواضع والتآلف لا توجد مدنية.
الآن انظر حولك وحاول أن تجيب عن سؤال العنوان: هل نحن شعب متمدين؟ هل كنا كذلك فى فترة ما من فترات تاريخنا؟ هل تراجع تمديننا؟ وإذا كان ذلك قد جرى، فكيف يمكننا أن نستعيد مدنيتنا الضائعة؟
نحن فى بعث جديد، والأمر يستحق العناء.