تتعرض علاقات القاهرة مع واشنطن لاختبار طال زمنه كثيرا عما توقعته دوائر الحكم وصنع القرار فى العاصمتين. ومنذ سيطرة الجيش المصرى على السلطة السياسية فى مصر منتصف عام 2013، تسارعت وتيرة توتر العلاقات لتأخذ منحنيات جديدة مفاجئة وغير متوقعة، وهو ما أصاب صانعى القرار ممن يقدرون أهمية العلاقات بصداع لم يتم التداوى منه بعد. لا يستطيع مخططو السياسة عند الطرفين تخيل عدم وجود علاقات خاصة بينهما، إلا أن تشابكات العلاقات بين الدولتين خلال السنة والنصف الماضية تشير إلى عدم توقع انفراجة فى العلاقات خلال فترة حكم الرئيس باراك أوباما والتى ستنتهى يوم 19 يناير 2017. قضايا مثل تسليح الجيش المصرى والموقف من التدخل فى ليبيا، وقضية غياب الحريات وعدم احترم حقوق الانسان، وما يرتبط منها من وقف للمساعدات العسكرية تعد من بين أهم تلك النقاط الخلافية.
تقدر واشنطن أن حصول الجيوش على أسلحة أمريكية يضمن لها قدرا مناسبا من التأثير المباشر وغير المباشر فى شئون تلك الدول. ولعقود طويلة ترجع لمنتصف القرن الماضى، ظل هدف تسليح جيش مصر أحد أهم الأهداف التكتيكية الأمريكية. وبعد عودة العلاقات العسكرية مع واشنطن من جديد عام 1976 تطورت هذه العلاقات حتى احتلت مصر المركز الثانى فى قائمة الدول التى تتلقى معونات عسكرية بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 وصل معها حجم ما تلقته مصر ما يقرب من 75 مليار دولار. ولا يتخيل الخبراء الاستراتيجيون الأمريكيون عدم وجود علاقات خاصة مع جيش مصر، ولا تريد واشنطن جيشا مصريا يحصل على سلاحه من دول أخرى منافسة مثل روسيا أو الصين، أو حتى صديقة مثل فرنسا وبريطانيا. ويعد تجميد المساعدات العسكرية لمصر واستمراره لأكثر من سنة ونصف السنة أثرا سلبيا كبيرا على الجيش المصرى الذى يرى أن واشنطن تلوى ذراعه رغم خوضه حربا واسعة ضد الارهاب. وبتعاقد الحكومة المصرية على شراء 24 مقاتلة رافال الفرنسية، تدشن مصر مرحلة جديدة فى محاولة تنويع سلاحها وتوجه بذلك رسالة ضمنية إلى واشنطن مفادها أن القاهرة يمكنها تنويع مصادر تسليحها وأنها لن تترك واشنطن "تحتكر" تسلح الجيش المصرى فى المستقبل.
•••
وجاء رفض الإدارة الأمريكية لدعوة الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى لاستصدار قرار من الأمم المتحدة يمنح تفويضا لتشكيل تحالف دولى للتدخل فى ليبيا بعد أن قصفت طائرات مصرية أهداف لتنظيم الدولة الإسلامية هناك عقب ذبح 21 من المصريين الأبرياء ليعمق من شرخ العلاقات. أصدرت الولايات المتحدة بمشاركة الدول الأوروبية الكبرى مثل إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وألمانيا بيانا مشتركا يوم الثلاثاء الماضى يقول إن عملية تقودها الأمم المتحدة لإقامة حكومة وفاق وطنى فى ليبيا تمثل أفضل السبل للتصدى للعنف وعدم الاستقرار فى البلد الواقع فى شمال أفريقيا. كما أشار البيان إلى أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة فى ليبيا، برناردينو ليون، سوف يواصل جهوده للوصول إلى حل سياسى يؤدى إلى حكومة وحدة وطنية، وجاء فى البيان أن الذين لا يريدون المشاركة فى عملية المصالحة للتوصل إلى حل سياسى فى ليبيا سيقع استبعادهم. واعتبر الكثير من الخبراء هذا البيان بمثابة خط أحمر للقاهرة على حدود دورها الإقليمى وحدود تدخلها فى الشأن الليبى، وهو ما يعد بمثابة هزيمة دبلوماسية كبيرة.
ويظل استمرار تصميم القاهرة على إقصاء جماعة الاخوان المسلمين، وإصرار واشنطن على التعامل مع الجماعة عائقا فى سبيل تطور العلاقات. وجاءت زيارة وفد إخوانى الشهر الماضى لواشنطن لتؤكد عمق هذا الخلاف. وكشفت طريقة الانزعاج الذى أبدته الخارجية المصرية على لسان وزير الخارجية المصرى دليلا كافيا على عمق هذا الخلاف مع عدم قبول القاهرة المبررات الأمريكية التى ساقتها لتبرير اللقاء. وتعتقد واشنطن أن السلطات المصرية "ذهبت بعيدا" فى حملتها ضد الإخوان ومؤيديهم. وفى حين صنفت واشنطن جماعة أنصار بيت المقدس منظمة إرهابية، ذكر مسئول أمريكى بارز أن جماعة الإخوان المسلمين لا تشكل خطرا على واشنطن، لافتا إلى إيمان واشنطن حتى الآن بأن وضع جماعة الإخوان فى نفس موضع جماعة داعش من شأنه التأثير السلبى، وإضعاف الحرب على الإرهاب.
•••
خلال أسابيع سيتجه وزير الخارجية جون كيرى للكونجرس حاملا شهادته بخصوص الشأن المصرى، وهو ما قد يسمح برفع الحظر عن تقديم المساعدات العسكرية لمصر من عدمه. وخلال العام الماضى وبالتحديد يوم 22 أبريل 2014 أدلى كيرى بشهادته بخصوص الشأن المصرى، جيدة وإيجابية فى شقها الأول للنظام المصرى، وسلبية فى شقها الثانى. جيدها أنها سمحت للبيت الأبيض برفع الحظر على إرسال عشر طائرات هيلوكوبتر من طراز أباتشى للجيش المصرى. وذكر كيرى للكونجرس أن مصر تحافظ على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة فى ملفات مهمة مثل مواجهة التهديدات المشتركة كالإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، كما أشار لالتزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل. وعلى الجانب السلبى جاء رفض كيرى الشهادة أن مصر تأخذ خطوات تدعم عملية التحول الديمقراطى. وناشد كيرى مصر أن تنفذ تعهداتها بالتحول الديمقراطى عن طريق إجراء انتخابات حرة وشفافة ورفع الحظر عن قيود حرية الرأى وحرية التجمع وحرية الإعلام. "انظر تقريرنا المنشور فى الشروق بتاريخ 25 ابريل 2014"
إلا أن ما تصر عليه الحكومة المصرية من خلال سجلها فى مجال الحريات وحقوق الانسان والمشاركة السياسية، أضف لذلك ما يقدم عليه القضاء المصرى من إصدار احكام غريبة بإصدار احكام اعدام بحكم المعارضين السياسيين، يصعب من رغبة الإدارة الأمريكية فى منح المساعدات للجيش المصرى.
من هنا ينتظر أن يكرر كيرى ما قاله العام الماضى، وهو ما قد ينبئ بعدم تحسن العلاقات المصرية ــ الأمريكية فى أى وقت قريب.