الجوائح الوبائية والنظام الدولى - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:33 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجوائح الوبائية والنظام الدولى

نشر فى : الإثنين 20 أبريل 2020 - 9:50 م | آخر تحديث : الإثنين 20 أبريل 2020 - 9:50 م

فى خضم الانشغال العالمى بجائحة فيروس (كوفيد ــ 19) وتداعياتها المتشابكة والمؤلمة فى آن على إنسان هذا الزمان، برأسه يطل السجال الاستراتيجى بشأن حدود تأثير ذلك الوباء الفيروسى المقيت على مصير النظام الدولى الراهن. فبينما ارتأى نفر من المفكرين إمكانية إسهام الآثار الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الهائلة والعميقة لجائحة كورونا، والتى ربما لا تقل فى وطأتها عن عواقب أى حروب كونية أو أزمات عالمية، فى بزوغ نظام دولى جديد، ذهب فريق آخر إلى استبعاد تحقق ذلك الطرح، استنادا إلى أن هيراركية النظام الدولى لا يمكن أن تتغير إلا على وقع حروب شاملة ضروس، كالحربين العالميتين، أو أزمات دولية مصيرية على غرار أزمة السويس عام 1956.
وفى وسع المتتبع لتاريخ الأوبئة الفيروسية والمرضية ابتداءً أن يتوصل إلى عدة معطيات معرفية بالغة الدلالة. أولها، أن تفشى الأوبئة الفيروسية أو المرضية التى ألقت بظلالها الكئيبة والكارثية على البشرية فيما مضى، قد اقترن، فى الغالب الأعم، بحروب كبرى ممتدة زمانيا وجغرافيا، إلى الحد الذى جعل منها سببا فى اندلاع تلك الجوائح المرضية بفعل انتقال العدوى بين الجنود الذين طالتهم هكذا أوبئة تحت وطأة الظروف المعيشية الصعبة التى فرضتها خصوصية ميادين القتال الوعرة وقسوة البيئات والأجواء المحيطة. الأمر الذى أفضى إلى توارى تأثير تلك الأوبئة خلف طغيان دمدمة الحروب، إثر تعالى صليل السيوف، ودوى القنابل، وأزيز الرصاص والطائرات، حتى تبارى المؤرخون وتفنن المبدعون فى بسط جل دواوينهم لتسجيل ورصد وقائعها، مكتفين بمنح النزر اليسير منها للجوائح والأوبئة المصاحبة، باعتبارها شيئا من مجريات الحرب، أو عرضا ثانويا من أعراضها.
فعندما اجتاح وباء الطاعون أثينا عام 430 قبل الميلاد مشعلا جائحة برع فى وصفها الأديب اليونانى العظيم هوميروس فى الفصل الأول من إلياذته الملحمية الخالدة، كانت أثينا قد انخرطت لتوها فى أتون حرب البلبونيز الشهيرة ضد اسبرطة، وكان المؤرخ الأثينى الشهير ثيوسيدس أول من أرخ لها فى مؤلفه المعنون «تاريخ حروب البلبونيز». ولم يرعوى الوباء اللعين إلا بعدما أزهق أرواح ما يربو على ثلاثين ألف مواطن ما بين مدنيين وعسكريين وبحارة، كان على رأسهم حاكم أثينا بريكليس وأسرته. وربما دفعت هذه الكارثة ببعض المؤرخين، إلى إدراج تفشى وباء الطاعون فى ربوع أثينا وفتكه بجل جيشها، ضمن حزمة العوامل التى قادت إلى هزيمتها فى حرب البلبونيز، التى ظل أوارها مستعرا طيلة ربع قرن من الزمان.
وفى حين يرجع المؤرخون ظهور أول جائحة إنفلونزا حقيقية إلى صيف عام 1580م، حينما لاح الوباء فى آسيا، ثم ما لبث أن أخذ فى الانتقال عبر طرق التجارة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، ليعود مجددا فى صورة إنفلوانزا روسية، بين عامى 1889 و1890، ويجهز على حياة مليون شخص، أتبعتهم بعدد مقارب الإنفلونزا الآسيوية التى اندلعت من الصين عام 1956، ظهر وباء «الإنفلوانزا الإسبانية» فى صيف العام 1918، وقبل أشهر من أفول الحرب الكونية الأولى، ليستوطن أجساد أكثر من 100 ألف شخص فى غضون أسبوعين فقط، قبل أن يتحول إلى جائحة عالمية ألقت بظلالها على العديد من دول العالم مثل بريطانيا وفرنسا والمجر وألمانيا والنمسا والسويد وكندا والولايات المتحدة وجنوب إفريقيا، لتطيح بما يناهز بـ 50 مليون إنسان حول العالم، بما يشكل ثلث سكان الكرة الأرضية وقتذاك، قبل انكفائه وانحساره فى صيف العام 1919، ومن ثم يتربع على عرش الأوبئة الأكثر فتكا والأسرع انتشارا فى تاريخ البشر، بحسب موقع «هيسترى» المتخصص فى الشئون التاريخية.
وعلى رغم استحواذ الحرب العالمية الأولى على اهتمام العالم إلى الحد الذى لم يدع مجالا لتسليط الضوء على تأثير الانفلونزا الإسبانية، يرى خبراء فى ذلك الوباء أحد الأسباب الرئيسة التى قادت إلى وقف هذه الحرب بعدما ضربت أطنابها فى صفوف كلا المعسكرين المتحاربين الحلفاء والمحور. بل إن الجنرال الألمانى إريك لودندورف ذهب أبعد من ذلك فى مذكراته، التى أسماها «مذكرات الحرب الخاصة 1914ــ1918»، حينما اعتبر الأنفلونزا الإسبانية أحد أسباب هزيمة ألمانيا فى تلك الحرب، بعدما أدى تفشى الوباء بين صفوف الجيش الألمانى إلى إضعافه وإجباره على توقيع هدنة 11 نوفمبر 1918 التى أنهت الحرب، بينما بقى وباء الإنفلونزا يقض مضاجع العالم لأشهر أخرى عديدة.
أما ثانى المعطيات، فيتجلى فى ظهور بعض منها فى غير أوقات الحروب مخلفة تأثيرات، لا يمكن تجاهلها، على الدول والشعوب. فخلافا للعديد من الجوائح المرضية والأوبئة الفيروسية التى قصمت أظهر الإنسانية طيلة تاريخها المنقضى، تدهم جائحة «كورونا» عالمنا غير مواكبة لحروب عظمى أو أزمات كونية طاحنة، الأمر الذى يفسح المجال أمام رؤية أوضح لاستجلاء حدود تأثيراتها العميقة فى مآلات النظام الدولى الحالى. وفى هذا المقام تجدر الإشارة إلى جوائح مرضية وفيروسية اندلعت سابقا فى غير أوقات الحروب، لكنها خلفت تداعيات مصيرية على حياة الناس كما الأنظمة الدولية السائدة فى حينها، بعدما أسهمت فى انهيار دول وإسقاط إمبراطوريات وصعود أخرى.
ففى أعوام 541 م و542 م، و750 م، دهم ما عرف وقتها بـ«وباء جستنيان» الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) وأتى على اقتصاد عاصمتها القسطنطينية مما أوهن آلة الحرب الرومانية. وبينما اعتبروه أحد أكثر الأوبئة فتكًا فى التاريخ الإنسانى، بعد إذ أودى بحياة ما ينيف على 50 مليون شخص طيلة قرنين من الزمن، وهو ما يعادل13ــ26٪ من سكان الأرض فى حينها، فيما عاد مجددا ليضرب بقوة بين عامى 1347 و 1351م، متسببا فى وفاة ما يقرب من 200 مليون شخص حول العالم، عده مؤرخون ضمن طائفة المخاطر التى كانت تفت فى عضد الإمبراطورية الرومانية الغربية. كيف لا؟ وقد نال من قدرة الجيش البيزنطى على تجنيد مقاتلين جدد وتوفير الإمدادات العسكرية إلى ساحات القتال، حتى باتت الإمبراطورية الجريحة عرضة للغزو المتواصل الذى فقدت على إثره مناطق فى أوروبا لصالح الفرنجة الألمان، فيما سيطر العرب المسلمون على مصر والشام، لتهوى الإمبراطورية برمتها لاحقا فى براثن السقوط على يد العثمانيين الذين تمكنوا من السيطرة على عاصمتها القسطنطينية عام 1453م. وما إن تفشى وباء الإنفلونزا فى ربوع روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية مطلع القرن الخامس الميلادى، حتى عده مؤرخون غربيون كثر أحد أسباب سقوط تلك الامبراطورية عام 476 م على يد القبائل الجرمانية، خصوصا بعدما اندس فى ثنايا سلسلة المقدمات التى مهدت السبيل لسقوط مدينة روما فى قبضة القوط الغربيين عام 410م.
ومن منظور حضارى، لاحظ فرانك م. سنودن، الأستاذ بجامعة ييل ومؤلف كتاب «الأوبئة والمجتمع: من الموت الأسود حتى الوقت الحاضر»، كيف أدى وباء الطاعون إلى إضعاف الكنيسة الكاثوليكية، بعدما عرى فشلها فى التصدى له، ما أسفر عن اهتزاز إيمان الناس بدور الكنيسة ورجال الدين، وعجل بانطلاق موجة الإصلاح الدينى البروتستانتى من سويسرا وألمانيا فى القرن السادس عشر.
واليوم، وعلى وقع جائحة كورونا، وتناغما مع ما اختتم به ابن خلدون توصيفه، فى مقدمته الماتعة، لأهوال أوبئة وطواعين العام 749هـ ــ 1348م وتداعياتها على الإنسان والعمران، بالقول: «وإذا تبدلت الأحوالُ جملةً، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خلقٌ جديدٌ، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث»، انهالت التنظيرات السياسية والطروحات المعرفية لمفكرين ومنظرين استراتيجيين وقادة دول، وانبرت الدوريات السياسية ذائعة الصيت على شاكلة «فورين أفيرز»، و«فورين بوليسى» الأمريكيتين، و«الإيكونوميست» البريطانية، فى تبيان مدى جهوزية فيروس (كوفيدــ19) لإعادة تشكيل النظام العالمى، بل والتبشير بأهلية الصين لمنازعة الولايات المتحدة أو بالأحرى مشاطرتها قمة ذلك النظام، استنادا إلى تفاقم قوتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بالتزامن مع نجاحها المدوى فى إدارة أزمة كورونا واحتواء تداعياتها، وتتويجها تلك الإنجازات بتقديم العون لدول العالم النامية والمتقدمة على السواء، ثم الإعلان عن تدشين نظام صحى عالمى أمضى فعالية وأكثر عدالة، بحيث يكون نواة لنظام دولى إنسانى، خصوصا بعدما أكدت جائحة كورونا، بما لا يدع مجالا للشك، وجوبية التعاون العالمى من منطلق المسئولية الجماعية الدولية عبر تفعيل آليات الإنذار المبكر، واستراتيجيات التنسيق المشترك ودعم نظام الحوكمة الدولى ومراكز البحث العلمى للأغراض الصحية، بغية مواجهة الأزمات الوبائية، التى تراءى للجميع استحالة تصدى دولة بمفردها لها، مهما بلغت إمكاناتها.
وبلا مراء، أتاحت جائحة كورونا للصين فرصة ذهبية لاستثمار إمكاناتها الطبية الفائقة لتعزيز مساعيها الرامية إلى تبوؤ موقع ريادى عالمى عبر مقاربة صحية كونية. وفى سبيل ذلك، عمدت إلى إحياء مبادرتها المعروفة بـ«طريق الحرير الصحى»، التى سبق وأن طرحها الرئيس الصينى إبان زيارته لجنيف فى يناير 2017، وتوقيعه مذكرة تفاهم مع منظمة الصحة العالمية، تستهدف تحسين الصحة العامة فى البلدان الواقعة على طول مبادرة «الحزام والطريق». وتوخيا لذات المقصد، استضافت بكين فى أغسطس 2017، منتدى «مبادرة الحزام والطريق للتعاون الصحى»، ودعت خلاله مسئولى الصحة فى الدول الستين المشاركة فى فعالياته، وكذا شركاء الصحة العامة، إلى تفعيل هذه المبادرة.
ومثلما كان متوقعا، أثارت مقاربة بكين الصحية الهادفة إلى حشد دعم عالمى للزحف الصينى الحذر باتجاه قمة النظام الدولى، حفيظة واشنطن وحلفائها الأطلسيين، حيث هرعت إدارة الرئيس ترامب، ومن خلفها لندن وباريس وعواصم غربية شتى، تشكك فى نجاحات الصين بشأن إدارة أزمة جائحة كورونا، وتكيل لها الاتهامات بخصوص المسئولية عن تفشى الوباء عالميا. الأمر الذى من شأنه أن يعيد هيكلة الاصطفافات الدولية، ويؤجج الاستقطاب العالمى، بما يعزز من احتمالات التشرذم والصدام الدوليين دونما اكتراث لدعوة الأمين العام للأمم المتحدة من أجل التعاون فى مواجهة جائحة (كوفيدــ19).
هنالك إذن، برأسه يطل المعطى الثالث الذى ينحو باتجاه إبراز الأثر المتعاظم للأوبئة على النظام الدولى فى غير أزمنة الحروب الكبرى. فحتى العام 1990 كان النظام الدولى يرتكن، إلى حد كبير، على قاعدة أيديولوجية، ما لبث أن باتت تكنولوجية مع ثورة الاتصالات والذكاء الاصطناعى، لتغدو اليوم بيولوجية صحية على وقع جائحة كورونا.وهو ما يحمل فى طياته إرهاصات تحول فى الأولويات المتعلقة بالقضايا الرئيسية محل الاهتمام العالمى، High Issue Politics كالأمن والدفاع والهيمنة والاقتصاد، حسب المدرسة الواقعية فى العلاقات الدولية، بحيث تفسح المجال لمزيد من الاهتمام بالقضايا التى كانت توصف بالأقل أهمية Low Issue Politics كالمناخ والبيئة والأوبئة وغيرها، خصوصا بعدما تعاظمت تأثيراتها المباشرة والعميقة على حاضر الناس ومستقبلهم، فى الوقت الذى كان العالم أسيرا لتحسب مرضى لدرء تهديدات عسكرية ومخاطر أمنية عتيقة موجها طاقاته وموارده لسباق التسلح التقليدى وغير التقليدى وعسكرة الفضاء، بينما باغته الهلاك المحقق من حيث لم يتوقع، حيث التهديد الوبائى الفيروسى، الذى ظن أنه قد غدا شيئا بدائيا من الماضى البعيد.
غير أن تسليط الضوء على تأثير الأوبئة الفيروسية أو المرضية فى العلاقات الدولية لا يعنى أن تداعيات جائحة كورونا الضخمة، قد تتمخض بالضرورة عن نظام عالمى مغاير لذلك الذى كان سائدا قبل كورونا. فثمة اتجاهين أساسيين للتغيير فى النظام الدولى: أولهما رأسى، يتعلق بقمة ذلك النظام الدولى، وثانيهما أفقى، يتصل بأنماط التفاعلات البينية التى تتم على مستوى فاعليه وأقطابه. وإذا كانت تداعيات الحروب الكونية والأزمات الدولية تستتبع تغيرا فى الاتجاه الرأسى يمتد وقعه أفقيا بالتدريج، يبدو أن المخرجات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية غير المسبوقة التى تمخضت عنها جائحة كورونا، قد تنتج أثرا مباشرا وعاجلا على المستوى الأفقى، فيما قد يتطلب تبلور تداعياتها المحتملة على المستوى الرأسى حينا من الدهر.
وفى هذا المقام، تبدو ضرورة التمييز ما بين سقوط أو أفول نظام عالمى، و تبلور أو بزوغ نظام آخر جديد، حيث لا يعنى سقوط نظام وتراجع قيادته أن تبزغ بالضرورة قيادة جديدة أو قطب جديد يحل محلها، فإما نظام جديد بقيادة مغايرة فردية كانت أو ثنائية أو حتى تعددية، وإما نظام بلا قيادة، أو لانظام عالمى، حيث لا قطبية أو قيادة واضحة تضبط إيقاع تفاعلاته. كذلك، فإن عملية التحول من نظام عالمى لآخر تستغرق مرحلة انتقالية قد تطول أو تقصر حتى تكتمل تلك العملية، فما كان للنظام أحادى القطبية الذى أعلن عنه الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الأب فى خطابه يوم 11 سبتمبر 1990 أن يستوى على سوقه إلا بعد أربع سنوات من طرح مماثل لنظيره السوفيتى ميخائيل جورباتشوف فى كتابه الذى حمل عنوان «البريسترويكا» عام 1986، ومن ثم لا يجب التسرع فى الحديث عن ملامح أو شكل نهائى لنظام عالمى جديد عقب كورونا بينما لم تكتمل عملية التحول أو تضع المرحلة الانتقالية أوزارها.
فمع تقاعس الصين وترددها فى اعتلاء قمة النظام الدولى من جهة، وتشبث واشنطن بتلك القمة مع الافتقاد لأى آليات للتفاهم بينهما، سواء لجهة التسليم والتسلم مثلما جرى بين بريطانيا وأمريكا إثر أزمة السويس عام 1956، أو بشأن تقاسم أعباء إدارة العالم، تبقى احتمالات العودة إلى نظام ما قبل «جائحة كورونا» قائمة، مع انعطافة اضطرارية لإعادة توزيع الأدوار وترسيم حدودها بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، على ألا يخلو الأمر من تغييرات تجميلية، بقصد احتواء التقلبات أو التكيف مع المستجدات الدولية، من قبيل إعادة شىء من الاعتبار لآليات الحوكمة الدولية ممثلة فى الاتفاقات والمعاهدات الدولية، فضلا عن الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.

التعليقات