تأتى دائما اللحظة التى تظهر فيها الحقيقة، ويضطر من يريد شيئا أن يفصح عما يريد ــ إما بالإعلان، أو بمد اليد. وقد ظهرت حقيقة ما يريده المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى الأيام الماضية، ويعلم الله إن كانت نيتهم المبيتة منذ يناير ٢٠١١ هى الوصول بنا إلى هذه النقطة، أم أنهم تدرجوا إليها خطوة خطوة. وعلى العموم فهذا الآن سؤال نظرى، ولا يفيد إلا فى تقييم مدى سذاجتنا، نحن الشعب الذى وثق فيهم، ودار يقول للعالم إن جيشنا غير الجيوش؛ وإن جيشنا هو أهلنا: أزواجنا وآباؤنا وأولادنا، وإن جيشنا قد رفض مرتين فى التاريخ الحديث أن يضرب النار على المتظاهرين، وأن كل فرد يدخل جيشنا يقسم ألا يرفع سلاحه فى وجه مصرى، وأنهم، الضباط الصغيرين والجنود، يقسمون لنا فى الميدان أنهم إن جاءتهم الأوامر بضربنا فسوف يعصونها.
أقول وثق الشعب فيهم، وأتساءل عن السذاجة، لكن الشعب لم يكن ساذجا؛ الشعب كان محبا للخير، مُصِّرًا على أن يحسن الظن بأبنائه وإخوانه وآبائه، ومع هذا، ولأنه شعب حصيف، كان يطبق ــ كما قالت أختى وقتها ــ مَثَلَه الذى يقول «حرَّص ولا تخَوِّن»، فأحاط بالمدرعات والدبابات، يرحب بالجيش الذى هو ليس الداخلية، ويصر أن يتعامل معه على أن الوظيفة الطبيعية لهذا الجيش هى أن يؤَمِّنه، يؤَمِّننا نحن، نحن الشعب؛ هذا جيشنا، ووظيفته، سبب وجوده فى الحياة، على هذه الأرض، أن يؤَمِّننا. حمل الناس للجند الزهور، وتشاركوا معهم فى الأكل، وأمدوهم بالبطاطين، وقذفوا بأطفالهم إليهم ليتصوروا معهم، وتكلموا وتناقشوا، ولعبوا ماتشات كرة ودية وتنازلوا بأريحية عن الدبابة التى قيل إنها الجائزة، وكانوا بكل كلمة وكل حركة يُذَكِّرونهم: يُذَكِّرونهم بولائهم، يُذَكِّرونهم بأهلهم، يورطونهم فى أن يعوا دائما أنهم جزء من هذا الشعب. وكانوا أيضا ينامون على جنازير الدبابات. هل هناك أسلوب ألطف أو أكثر تحضرا فى العالم كله، فى التاريخ كله، للتعامل مع الوضع الذى وجدنا أنفسنا فيه؟ جيشنا يقف بمدرعاته وسلاحه فى ميادين بلادنا، ونحن فى ثورة إنسانية كبرى تنشد التحرر، فنعمل على احتوائه فى أسرتنا المصرية الكبيرة: نفترش جنازير دباباته نعبر عن ثقتنا فيه، وائتماننا له، وارتكاننا إليه ــ ولنمنعه أيضا عن تحريكها.
وفى الحقيقة أننا عرفنا مبكرا، عرفنا يوم موقعة الجمل، أن الأمر ليس بسيطا، ورأينا الجيش يؤَمِّّن الميدان من ناحية شارع القصر العينى ويقف «على الحياد» فى بقية المواقع. وماذا عن حماية الشعب؟ حمايته من البلطجية الممنهجين المسلحين؟ لأ. الجيش (فيما عدا طلقة محذرة واحدة لضابط واحد) وقف على الحياد. وفى اليوم التالى عرفنا أن الجيش يأخذ الثوار إلى حديقة المتحف المصرى و ــ لن أقول يعذبهم لأننى تعلمت أن القانون المصرى، فى إحدى تجلياته «التنكة» لا يعترف بالـ«تعذيب» إلا إن هدف إلى استخراج المعلومات من المعذَّب ــ لا يعذبهم إذن، فقط يضربهم ويشج رءوسهم، ويطفئ فيهم السجائر.
وانقسمنا. جانب منا يرى أن الجيش لا يحبنا وأنه يتحين لنا الفرص وأنه أداة قمعنا الجديدة ــ وجزء يرى أن الجيش يتصرف هكذا لأنه جيش ولا يعرف كيف يتعامل مع مدنيين وعنده الوضع إما سلام وإما حرب ولا خبرة له بمساحة الحياة الكبيرة بين الحالين وأن علينا لذا أن نعمل على ترتيب أمورنا لإعفائه من هذا الدور وإخراجه من الشارع بأسرع ما يمكن.
إعفاؤه من هذا الدور؟ يا لسخرية الأقدار! يوم الخميس الماضى وضح لنا أن هذا هو بالضبط الدور الذى يطلبه، يبغيه، ينشده، والذى أهداه له سيادة وزير العدل بقانون الضبطية القضائية الجديد، وبلوره لنا المجلس العسكرى فى الإعلان الستورى المكمل: نحن الآن بلد يهاجم فيها الجيش شعبه، ويقنن له القضاء هذا، ويحميه الدستور. وكأننا فى مستعمرة مما يرسلون إليها عتاة المجرمين لتأديبهم. والمجرم هنا هو الشعب.
أخذوا وقتهم، وطوروا الجيش: فى ماسبيرو رأينا المدرعات تدوس الناس، وفى محمد محمود استهدفوا الحياة والعيون، وفى مجلس الوزراء ضربوا السيدات وسحلوا الشابات، وفى المنصور بنوا الجدران الخرسانية وتوغلوا حتى الفلكى يطلقون الرصاص والخرطوش على المواطنين. وفى كل مرة كان عنصر يمكن أن نسميه بالعنصر «الشخصى» يزداد: لمسنا عداء متزايدا من جانب أفراد الجيش الذين يقومون بالضرب والسحل والتهديد وإطلاق النار ــ إلى جانب أفعال قلة الأدب المختلفة. المسألة لم تعد أننا جزء من كيان واحد كتب علينا القيام بأدوار مختلفة فيه فى هذه اللحظة، المسألة أنهم يرون أننا نستحق هذه المعاملة ــ كلمات ترددت عن العمالة والخيانة والعمل على خراب البلد وتسليمه إلى أعدائه.
لن يمر كل هذا. فالأمور والتوجهات التى اتضحت لفصيل من الثورة فى فبراير ٢٠١١، فأخذوا موقفا صلبا متسقا أمينا بمقاطعة كل ما له علاقة بحكم المجلس العسكرى، اتضحت لنا جميعا الآن، فأصبح الخيار الوحيد المتاح هو ضم الصفوف فى مواجهتها. ضم الصفوف، والعودة إلى الشعب، واحترامه، والاستقواء به.
كانت الشواهد ــ الانخفاض المستمر فى نسبة مشاركة الناخبين فى التصويت منذ استفتاء مارس ٢٠١١ إلى الدورة الأولى فى انتخابات الرئاسة ــ تنذر بأن المشاركة فى انتخابات الدورة الثانية سوف تكون أقل منها فى الدورة لأولى. وحدث العكس، ارتفعت المشاركة، وقيل فى الساعات الأربع الأخيرة، وكسب كل من المرشحين أكثر من ضعف ما كسبه من أصوات فى الدورة الأولى. فعلى الدكتور محمد مرسى، وحزب العدالة والحرية، وجماعة الإخوان المسلمين، أن يدركوا جيدا أن الأصوات التى اكتسبوها فى الدورة الثانية، والتى بدونها لم يكن الدكتور مرسى ليحصل على الأغلبية، هذه أصوات لناخبين لا يوافقون على مشروع الإخوان والحزب، وإنما ضموا إليهم لدرء شر أكبر عن البلاد. وعليهم أن يدركوا أيضا أن الأصوات التى اكتسبها الفريق شفيق فى الدورة الثانية تعبر صراحة عن خوف أصحابها ــ خوف مواطنين مصريين ــ من مشروعهم.
على القوى المدنية الآن (وعلينا أن نتوخى الدقة الآن فى استعمال المفردات؛ فأعنى بالقوى المدنية: القوى غير العسكرية) عليها الآن أن تحرص على أى كيان تمسك به، وأولها اللجنة التأسيسية المهددة. ومن بشائر الخير التصريح الذى أدلى به رئيسها، المستشار حسام الغريانى، حيث قال إن «الشباب قام بالثورة، والشيوخ تصارعوا عليها». فإن كان يرى هذا فأتصور أنه سيدير اللجنة ويوجهها إلى تشكيل دستور يعبر عن رؤية الشباب ورؤية الثورة المدنية، التعددية، التواقة إلى العيش، والحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية.
وإن رأى الناس أن اللجنة تمشى فى طريق الثورة فسيساندونها ويعملون على حمايتها.
العنوان والمفتاح للجميع الآن هو الشعب. الشعب، منذ الثورة، قام بدوره بشكل مبهر: خرج إلى الشوارع والميادين حين كان الأمر يلمسه، وابتعد عنها حين شعر بالاصطناع. كان شجاعا، وصامدا، وماهرا. تعلم دروسا كثيرة. انتخب الإخوان وأصدقاءهم إلى البرلمان، ولما لم يرضَ عن أدائهم حجب عن مرشحهم الرئاسى نصف أصواته. الشعب يطلب ــ ليس من يقوده ــ ولكن من يمثله ويمكنه. والشعب يريد من يمثلونه أن يكونوا فاعلين متحدين تقدميين، يستطيعون تحويل تضحياته وشجاعته إلى مكاسب سياسية، إلى سلطة اتخاذ قرار.
فى يوم من أيامنا القادمة، حين تصبح بلادنا حرة، يديرها شعبها لمصلحة شعبها، سننظر فى مناهجنا التعليمية، وسنُعَلِّم أبناءنا وبناتنا قيمة مصر والمصريين، وستكون مناهج الفنية العسكرية، وكل ما يعلمونه لأبنائنا فى قواتنا المسلحة (خلاف التقنيات العسكرية)، متسقة مع رؤية هذا البلد لنفسه ولدوره، ولشعبه.
فى يوم من أيامنا القادمة، يوم قريب، سيكون عندنا دستور لا يكرس لحكم العسكر، دستور يعبر عنا، ويحدث بنا، وربما يبدأ: «مصر بلد ذو سيادة، له خصوصية جغرافية، قوامها موقعه، ونيله، وحدوده المعروفة والثابتة منذ آلاف السنين. تفاعل المصريون مع هذه الخصوصية فصارت لهم شخصية مصرية، أنتجت تاريخا مميزا، وثقافة قوامها المشاركة، والعدالة، والتكافل، والتعددية».