المقامة فى اللغة هى المجلس، ومقامات الناس مجالسهم، وتطلق كلمة مقامة مجازاً على الكلام الذى يدور فى المجلس بعامة.
والمقامة فى الأدب العربى قصة قصيرة مسجوعة يتخللها أبيات من الشعر، تتضمن ملحمة أو نادرة أو عظة، وكان الأدباء يتبارون فى كتابتها إظهاراً لما يمتازون به من براعة لغوية وأدبية.
وقد نشأت المقامة بالمعنى الفنى على يد بديع الزمان الهمذانى(358-398هـ)الذى كتب إحدى وخمسين مقامة، ووضع أسسها الرئيسية التى تتمثل من حيث الشكل فى وجود راوية وبطل، وقد كان راويته هو عيسى بن هشام وبطله هو أبو الفتح السكندرى.
أما على المستوى اللغوى فيرى طاهر أبو فاشا أن الغرض الأول من المقامات هو استعراض العضلات اللغوية، وعرض فنون من الألاعيب البيانية، وحشد معجم من الألفاظ والتراكيب والأساليب الغريبة، وكأن المقامة درس لغوى يخفف من ثقله الإلطاف بالنادرة، والمفاكهة التى تشيع فى جو المقامات، ونتج عن هذا أن بطل المقامات كان عادة من الأدباء حتى يليق به أن يكون ممتلكاً لناصية اللغة والبيان.
وقد ظلت مقامات الهمذانى هى الأولى حتى جاء الحريرى(446-516هـ)الذى سار على دربه وكان راويته هو الحارث بن همام، وبطله هو أبو زيد السروجى، ولكنه زاد عنه إغراباً وافتناناً، وأتى بالمعجبات المغربات التى فتن بها عصره والعصور المتعاقبة، فكان مثلاً يكتب رسالة يلتزم حرف السين أو حرف الشين فى جميع كلماتها، أو يكتب رسالة جميع حروفها منقوطة أو جميع حروفها مهملة، وكان يكتب الرسالة تقرأ من اليسار لليمين كما تقرأ من اليمين إلى اليسار وكذلك أبيات الشعر، وقد صنع كل هذا بمقاماته حتى إن إعادة نشر هذه المقامات قد ورد فى سياق حيثيات الترخيص لإصدار جريدة الأهرام عام1885، والذى نص على «رخصت نظارة الخارجية لحضرة سليم تقلا باشا بإنشاء مطبعة تسمى الأهرام كائنة بجهة المنشية بالإسكندرية تطبع بها جريدة تسمى «الأهرام» تشتمل على التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية..وكذا بعض الكتب كمقامات الحريرى».
ويرى طاهر أبو فاشا أن مقامات الحريرى ظلت تتمتع بهذه المكانة المرموقة حتى جاء العصر الحديث بمقاييسه الأدبية الحديثة وظهر عاملان كان لهما أثرهما فى زحزحة المقامة عن مكانتها، أولهما: جنوح الكتابة نحو اليسر والسهولة وإسقاط الزخارف التى كانت قيوداً تثقل الكتابة وتحد من انطلاقها. وثانيهما: ظهور القصة، والقصة القصيرة بالذات، فقد استطاعت بخصائصها الفنية أن تلبى حاجة العصر، وأن تنتقل بجمهرة القراء من عصور المقامة إلى عصر القصة. وبهذا باخت المقامة،وفقدت جدتها، وتخلفت عن مكانتها وأصبحت أثراً من الآثار الأدبية التاريخية.
وعلى الرغم من موت المقامة فقد استطاع الشاعر الشعبى الكبير بيرم التونسى أن يتداركها وهى فى الرمق الأخير، وعالجها علاج الطبيب الذى يعرف مكمن العلة، فابتعد عن قيود الزخارف الثقيلة، واقترب من القصة القصيرة إلى حد كبير، فرد للمقامة حيويتها، ووسع دائرة الاهتمام بها، وقربها إلى رجل الشارع فأقبل عليها القراء العاديون فضلاً عن الخاصة.
وقد كتبها بيرم بطبيعة الحال، بالفصحى الزلال، واختار أبطالها المتعددين، شيوخاً معممين،لأنه يليق بهم الحديث الرصين، كما تكثر نوادرهم بين المتفكهين.
ومن بين المقامات الطريفة المقامة «البيجامية»،حيث سافر أحد المشايخ فى بعثة إلى باريس،وسكن فى بنسيون، فلما جاء المساء وجد صاحبة البنسيون تجلس أمامه فى الصالون ترتدى بيجامة وتضع ساقاً على ساق، فظنها تسخر منه، فهرع إلى سكرتير السفارة ليسأله:
هل تلبسُ النسوانُ فى خَلَواتِها لبسَ الرجال ومثْلَهُمْ تَتَقَمَّــطُ ؟!
أبصــرتُ ربَّةَ منزلى وثيابُهـــــــــــا مثلى ومثلك..أم أرانى أغْلَطُ
فقال: وما هذا اللباس؟ فقلت:
هو بنطلونٌ فوقه جاكتــة مفتوحـةٌ منها النّهـودُ تُلَعْــــــلـطُ
فابتسم: فقلت:
أفكان سُخْراً ذاك أم هى عادةٌ قل لى فعقلى مُنْذُ ذاك مُلَخْــبَطُ
فضحك وقال: هذه بيجامة، فقلت:
إن كان هذا فالبجـــامةُ شكلُها ــ فى مذهبى ــ شكلٌ يَسُرٌ ويَبْسُطُ
فقال: هل أعجبتك؟ فقلت:
لَفَّاءُ كالتمثالِ حتى خِــلْتُهـا من مقُلتَى ــ لا من يدَى ــ تَتَزفْــلَطُ
فقال: دَعنا من ذلك، واسمع ما جرى هنالك.
لقد جاء أربعةٌ من الطلبة يسألون عنك، ولا أدرى ماذا يريدون منك. يقول أحدهم: إنه من إنشاص..ويقول الثانى: إنه نجل عمدة دماص،والاثنان الآخران يقولان،إنهما من أبناء الأعيان.
فلما رأيتهم إخوانك، أعطيتهم عنوانك، وكأنى بهم الآن فى دارك، جالسين فى انتظاركْ.
قال: فانطلقتُ كالسهم، بوجه جهم ،لأطرد هؤلاء الضيوف بالمعروف،أو بالمتلوف،لأن أبناء العمد، ومشايخ البلد، إذا أبصروا مثل هذه «المدامة»، فى هذه البجامة، فلن يخرجوا إلا يوم القيامة.
ومع ذلك. ومن قبيل الاحتياط، كتبتُ على الباب ما هو آت:
يا أىُّ هَذا الزائرى : لستُ هُنا وذا الذى تقرؤه خطى أنــــــــا
فلا تدق الباب جــــــنبت العنا واذهب ذهبت شاكراً أو لاعنا
ليست أوروبا مثل كفر البلْينا