يزيد الحديث مؤخرا عن انشقاقات وشروخ هيكلية بدأت تعرفها العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لدرجة تحذير توماس فريدمان، الكاتب الأمريكى اليهودى الشهير بصحيفة نيويورك تايمز، للشعب الإسرائيلى، بيمينه ووسطه ويساره، من أن الرئيس جو بايدن، قد يكون آخر رئيس ديمقراطى مؤيد لإسرائيل. وأتصور أن فريدمان، وغيره من المعلقين الأمريكيين، إضافة لعدد غير قليل من المعلقين العرب وكذلك الإسرائيليين، يتبنون هذا الطرح الخاطئ، والذى أراه يعكس أوهاما فى عقول أصحابها بما يتجاهل الواقع الفعلى لعلاقات الدولتين الثنائية، أو لواقع علاقات واشنطن مع الفلسطينيين، أو حتى واقع علاقات الولايات المتحدة مع الدول العربية خاصة الخليجية منها.
• • •
يملك الرئيس بايدن أكثر من نصف قرن من العمل العام وهو ما سمح له ببناء سجل طويل من التزامه القوى بحماية أمن إسرائيل وتعزيز الشراكة الأمريكية الإسرائيلية، فقد اعتبر خلال حملته الانتخابية عام 2020 أن دعمه لإسرائيل «شخصى للغاية ويمتد طوال حياته المهنية».
وعلى الرغم من تعهد بايدن بإعادة المبادئ الحاكمة التى وجهت الدبلوماسية الأمريكية نحو الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، ويشمل ذلك بالأساس دعم حل الدولتين، ومعارضة ضم إسرائيل المزيد من الأراضى أو بناء مستوطنات جديدة، فإنه لم يتراجع عن قرار الرئيس السابق دونالد ترامب بنقل سفارة واشنطن إلى القدس أو الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، ولم يُعد افتتاح قنصلية بلاده بشرقى القدس، ولم يسمح بإعادة عمل البعثة الدبلوماسية الفلسطينية فى واشنطن بعدما أوقفها ترامب عن العمل.
كما تسخر إدارة بايدن من شركائها العرب، إذ لا تزال تكرر أنها تهدف إلى إعادة فتح قنصليتها فى القدس، التى أغلقها الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2019، إلا أنها لا تقدم جدولا زمنيا ولم تبدأ أى إجراءات عملية فى هذا الاتجاه على الرغم من مرور أكثر من عامين ونصف على بدء حكم بايدن، وذلك خشية إغضاب إسرائيل.
منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، والاعتراف الأمريكى الفورى بها، وهى تتمتع بدعم يتخطى الانتماء الحزبى، إذ تتنافس قيادات الجمهوريين والديمقراطيين على إرضاء إسرائيل ولوبياتها القوية بالولايات المتحدة، من هنا تقدم واشنطن دعما كبيرا لتل أبيب سواء فى صورة مساعدات مباشرة أو دعم دبلوماسى على الساحة الدولية. وعلى سبيل المثال تُلزم مذكرة تفاهم توصل إليها الطرفان حول المساعدات العسكرية، مفادها تزويد الولايات المتحدة إسرائيل بمبلغ 3.3 مليار دولار من التمويل العسكرى الأجنبى، وإنفاق 500 مليون سنويا على برامج الدفاع الصاروخى المشتركة سنويا حتى عام 2028.
ويكرر بايدن، كما سبقه بقية الرؤساء الأمريكيين، دعمه (عديم الجدوى) لحل الدولتين، ولم يقدم بايدن على التنديد بموقف رئيس الوزراء الإسرائيلى الذى قال منذ أيام «إنه يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم».
ولا تفكر النخبة أو المؤسسات السياسية الأمريكية فى عقاب إسرائيل أو فرض عقوبات على مسئوليها على ما تم أو ما يتم اقترافه من جرائم ومخالفات تُصنفها العديد من المؤسسات الدولية فى خانة «جرائم حرب». ولا يجرؤ البيت الأبيض أو لجان الكونجرس على مجرد طرح فكرة وضع شروط على المساعدات الموجهة لإسرائيل أو وقفها سواء كعقاب على ما تقوم به، أو حتى كورقة ضغط لدفعها للتحرك تجاه منح الفلسطينيين دولتهم المشروعة.
ولا يمثل معارضة رؤية إدارة بايدن لما يريد ائتلاف نتنياهو الحاكم تمريره، وهو ما يعرف «بالإصلاح القضائى»، وهو ما من شأنه أن يُقلل بشكل حاد من قدرة المحكمة العليا الإسرائيلية على الإشراف على قرارات وتعيينات الحكومة الإسرائيلية، ضربة لعلاقات الدولتين كما يدعى البعض. وعبر بايدن عن احترامه لحق إسرائيل فى اختيار طريقها الخاص دون تدخل حليفها الأمريكى فى مسألة داخلية، فى وقت يدعم فيه الحزب الجمهورى تحركات نتنياهو، وكذلك لم يعبر فيه أحد من الحزبين، الجمهورى والديمقراطى، عن عقوبات أو عن تراجع أو تحجيم علاقات الدولتين. ولا يمثل موقف بايدن تغيرا أمريكيا فى علاقتها بإسرائيل بأى صورة من الصور.
• • •
لا تريد إدارة بايدن أن ينفجر الوضع فى الضفة الغربية ويخرج عن السيطرة، وهى كذلك لا تترك فرصة إلا وتؤكد على دعمها غير المحدود لإسرائيل. وبعد كل فصول العدوان الإسرائيلى الأخيرة سواء على قطاع غزة أو مخيم جنين أو بقية مدن الضفة، أو حتى على سوريا أو الحدود اللبنانية، تكرر النخبة الأمريكية الحاكمة مقولات «حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها».
فى الواقع ذاته، فقد مكن دعم الولايات المتحدة الثابت لإسرائيل تشجيعها على اقتراف العنف المتصاعد للحكومة الإسرائيلية اليمينية ضد الفلسطينيين. فى الوقت ذاته لم تعد الدول العربية راغبة فى الضغط على أمريكا ولا إسرائيل أو إظهار أن هناك ثمنا على إسرائيل أو حليفها الأمريكى دفعه نتيجة هذه السياسات.
فى الماضى كان يمكن لدول مطبعة مع إسرائيل أن تسحب سفيرها أو تطلب مغادرة السفير الإسرائيلى أراضيها حال وقوع عدوان. اليوم اختفى ذلك فى ظل تهافت الدول العربية على دخول حلبة التطبيع المجانى مع إسرائيل، وفى ظل بقاء الدفع والضغط الأمريكى على المزيد من الدول العربية، خاصة السعودية، كأحد أهم أهداف سياسة واشنطن فى الشرق الأوسط.
ما سبق أعلاه لا ينكر وجود خلافات شكلية بين أمريكا وإسرائيل، لكنها لا تصل أبدا لدرجة المطالبة الجادة بتغيير أو تعديل المواقف والسياسات الأمريكية المؤيدة لتل أبيب، ويظهر ذلك فى نمط تصويت أعضاء الحزبين الجمهورى والديمقراطى، فى الكونجرس على مشاريع القرارات المتعلقة بإسرائيل، والتى يجمع عليها الأعضاء باستثناء عدد ضئيل من الأصوات التقدمية التى تبقى هامشية فى المعسكر الديمقراطى. أما المعسكر الجمهورى فهو متحد وراء دعم إسرائيل الأعمى على طول الخط. وعلى الرغم من غياب أى مؤشرات على أى تراجع فى الدعم الأمريكى لإسرائيل حاليا، أو فى المستقبل القريب، تظهر زيادة التعاطف بين شباب الجامعات الأمريكية تجاه قضية فلسطين. وأظهر استطلاع لمؤسسة جالوب أن 49% من أتباع الحزب الديمقراطى عبروا عن تأييدهم وتضامنهم مع الفلسطينيين مقابل 38% لإسرائيل، لا يعرف أحد كيف يمكن ترجمة التغير فى الرأى العام الأمريكى تجاه الشعب الفلسطينى إلى تغير فى السياسات والمواقف الرسمية الأمريكية تجاه الحقوق الفلسطينية.
كاتب صحفى متخصص فى الشئون الأمريكية، يكتب من واشنطن.
الاقتباس
منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، والاعتراف الأمريكى الفورى بها، وهى تتمتع بدعم يتخطى الانتماء الحزبى، إذ تتنافس قيادات الجمهوريين والديمقراطيين على إرضاء إسرائيل ولوبياتها القوية بالولايات المتحدة، من هنا تقدم واشنطن دعما كبيرا لتل أبيب سواء فى صورة مساعدات مباشرة أو دعم دبلوماسى على الساحة الدولية.