منذ أكثر من مائتى عام قال بنجامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة هؤلاء الذين يضحون بالحرية مقابل الأمن.. و(الاستقرار) لا يستحقونهما. وهناك اليوم من يريد أن يخير المصريين بين حريتهم أو أمنهم. لذا تشبه ثورة مصر المستمرة منذ 25 يناير بعملية الولادة التى يخرج فيها وليد جديد من رحم المجتمع القديم طبقا لرؤية المفكر فريدريك انجلز. وحتى اليوم لم يقرر الشعب المصرى ما يريد من بين بديلين لا ثالث لهما. البديل الأسهل والمستقر، والذى يبحث فيه الجميع عن الاستقرار هدفا، وحتما سيخرج منه الوليد غالبا مشوها، أو البديل الأصعب غير المستقر، والذى يبحث عن ضمان الحريات، والذى سيخرج منه الوليد حتما عفيا قويا.
ومصر، التى تمر حاليا، كدولة وكمجتمع، بمرحلة مخاض حرجة تتطلب منا النظر والاقتداء بتجارب دول نجحت ثوراتها ونجحت تجربتها الدستورية فى خلق إطار قانونى دستورى يحافظ على حقوق الجميع سواء مثلوا الأغلبية أو الأقليات. ويمكن لنا أن نأخذ ما نراه مناسبا لمصر وأن نقوم بتمصير تجارب الآخرين وأن نبدأ من حيث انتهى الآخرون.
وبعد ما شهدته مصر خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وخلال السنوات الثلاث الماضية، ومع تزايد المطالب بضرورة استبعاد قطاعات من الشعب المصرى بسبب رؤيتها السياسية وانتماءاتها الحزبية، قد يكون من المفيد أن نضع مواد فوق دستورية، وهو ما كتبت عنه منذ أكثر من عام على هذه الصفحات. وثيقة حقوق مصرية تعمل كمانع صلب ضد طغيان الدولة وطغيان الأغلبية، وكذلك ضد تعسف الأقليات وضد أى انحراف يمكن أن تنساق إليه، بحيث تضمن الوثيقة التوازن بين الحاكم وبين المحكومين فى الحاضر والمستقبل وأن توفر ضمانا ضد أى استبداد الآن ولعقود قادمة.
•••
يشهد التاريخ من حولنا تجارب ثورية جاءت نتيجة وجود استبداد داخلى أو وجود احتلال خارجى، وبعد نجاح الثورات وتغييرات دراماتيكية لم يتحقق بالضرورة هدف إقامة دولة عدالة ومساواة وحريات ومؤسسات.
ثورة إيران ادعت أنها تهدف لإقامة نظام ديمقراطى، وتبنت نظاما يسمح بانتخاب الرئيس لفترتين كحد أقصى، وحددت مدة الرئاسة بأربع سنوات فقط، إلا أن تجاهل حقوق المواطنين الإيرانيين وحرياتهم الأساسية أجهض الثورة وأعادها إلى أحضان ديكتاتوريات دينية وسياسية منتخبة.
ونفس السيناريو عرفته الثورات العربية على مدى تاريخها رغم أنها ولدت برضاء شعبى واسع. إلا أن هذه الثورات نجحت فقط فى إزاحة المحتل الأجنبى واستبدلته بديكتاتوريات محلية عسكرية فى الأغلب. ولم تنجح الثورات الشرق أوسطية فى إقامة ديمقراطية سياسية، ولم تنجح فى تحقيق رفاهية اقتصادية.
وإذا ما تركنا الشرق الأوسط وغربنا لوجدنا فى التجربة الأمريكية نموذجا يستحق الاقتباس. فبعد نجاح الثورة الأمريكية وإعلان الاستقلال الأمريكى عن التاج البريطانى عام 1776، كان من أهم القضايا التى واجهت الدولة الجديدة هو تحديد شكل نظام الحكم، وحقوق المواطنين وواجباتهم تجاه ولاياتهم ودولتهم، ودور الدين فى الحياة السياسية.
•••
علينا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن نتبنى وثيقة مصرية للحقوق على شاكلة وثيقة الحقوق الأمريكية The Bill of Rights، التى دخلت حيز التنفيذ فى عام 1791. وتعرضت المادة الأولى من وثيقة الحقوق للحريات الأساسية مثل تلك المتعلقة بحرية الدين والتعبير والصحافة وحق الاجتماع والتقاضى.
وبما أن وثيقة الحقوق ستجنبنا مخاطر عدة، وتبنى وثيقة حقوق من شأنه حماية الحقوق الأساسية للمصريين بغض النظر عمن سيئول إليه النصر فى المعارك الدائرة حاليا، وبغض النظر عن تركيبة مجلس الشعب المقبل، وبغض النظر عن اسم رئيس مصر المستقبلى. فلماذا لا يتم تبنى مثل هذه الوثيقة سريعا حتى قبل أن يخرج الدستور الجديد ويتم استفتاء الشعب عليه بعد شهرين من الآن.
ورغم أن الولايات المتحدة تمتلك أقدم دستور مكتوب فى العالم، ورغم أن الدستور الأمريكى هو أكثر الصادرات الأمريكية شعبية حول العالم، وأقدمها على الاطلاق، فقد اقتبست العديد من دول العالم مثل البرازيل وبلجيكا والنرويج والمكسيك، خبرة كتابة دساتيرها مهتدية بالتجربة الأمريكية. إلا أن الدستور لم يكن كافيا فى نظر الكثيرين بسبب عدم ضمانه للحقوق الأساسية للمواطنين، وعدم ضمانه عدم ممارسة الدولة استبدادا أو ظلما ضد مواطنيها فى المستقبل. وتمت الموافقة على وثيقة الحقوق فى وقت لم يكن يعرف المجتمع الأمريكى وجود أقليات دينية أو عرقية أو طائفية أو لونية. أغلبية سكان الولايات المتحدة حينذاك كانوا من البيض ممن يؤمنون بالبروتستانتية المسيحية.
لا أتحدث هنا عن نسخ الدستور الأمريكى أو تمصيره، بل أقصد تبنى روحه ومبادئه، وأن نحاول أن نقترب من وطنية من كتبه فيما يتعلق بتغليب الصالح العام على المصالح الضيقة. كذلك أن نأخذ فى الحسبان الخصوصية المصرية كما فعل الأمريكيون منذ 230 عاما عندما راعوا خصوصيتهم الأمريكية.
ما ذكرته التقارير الصحفية عن محتوى مشروع الدستور المصرى الجديد يظهر أن به الكثير من الألغام التى يجب تجنبها من أجل ان ندفع مصر للأمام. ولن يتحقق هذا إلا بإلغاء القيود على الحريات، تلك القيود التى تخرج من تحت عباءة سيادة القانون. الحريات سواء كانت هذه الحريات تتعلق بممارسة شعائر دينية مقدسة، أو بممارسة حريات خاصة تتعلق بالملبس والمشرب والمسكن، أو حريات التعبير بما فيها من حرية التعبير الأدبى والصحفى والفن، يجب أن تكون محصنة ضد أى تسلط من جانب الدولة.
•••
ما تحتاجه مصر الآن هو تطبيق لعدد محدود من المبادئ العالمية السامية مثل الفصل بين السلطات وضمان الحريات الشخصية وحقوق المواطنة مع الالتزام بمنع طغيان الأغلبية، ومواجهة تعسف الأقلية، بما يحقق توازنا مقبولا بين الأغلبية الحاكمة وبقية الشعب المصرى فى الحاضر والمستقبل، وأن توفر ضمانا ضد أى استبداد الآن، ولعقود المقبلة.