مستحضرات التجميل.. والهوية الأنثوية فى الحضارات القديمة - من الصحافة الإسرائيلية - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 3:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مستحضرات التجميل.. والهوية الأنثوية فى الحضارات القديمة

نشر فى : الأربعاء 20 سبتمبر 2023 - 7:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 20 سبتمبر 2023 - 7:05 م

من المثير للدهشة والتأمل هو اكتشاف الحضارات القديمة لمساحيق التجميل رغم بساطة الأدوات والإمكانات آنذاك، إذ تزخر الحضارة المصرية القديمة بالرسومات الفرعونية التى توضح استخدام الكحل والعطور وأحمر الشفاة. ومع معرفة الحضارات القديمة لمستحضرات الجمال انقسم الفلاسفة والشعراء بين مؤيد ومعارض لهذه المنتجات. فمثلا، رأى الكتاب الرومانيون واليونانيون أن المكياج دليل على الخيانة وسوء خلق المرأة. فى ضوء ذلك، نشرت جريدة هاآرتس مقالا للكاتبة تيرى مادنهولم، أوردت فيه أمثلة على اختلاف الآراء إزاء وضع المرأة لمساحيق التجميل موضحة أن استخدام تلك المساحيق قديما كان يعد نوعا من إعلان المرأة حريتها والتأكيد على ذاتها نظرا لمحاولة بعض الحكماء تشويه سمعة من تضع هذه المستحضرات... نعرض من المقال ما يلى.
بداية، يبدو المكياج وكأنه اختراع حديث، يتطور ليصبح صناعة بمليارات الدولارات، لكن الحقيقة هى اكتشاف الحضارات القديمة لمستحضرات التجميل منذ القدم، وتعد أرض الفراعنة خير دليل على ذلك.
يمثل المظهر الخارجى للمصريين القدماء قيمة ثقافية ودينية كبيرة. وأكد على ذلك «كتاب الموتى»، إذ يمنع الإنسان من التحدث فى الآخرة إلا إذا كان حسن المظهر. للتوضيح، ينص الكتاب على أنه لا يجوز للراحل أن يقرأ «التعويذة 125»، التى تتضمن طقوس «وزن القلب» (أى محاكمة قلب المتوفى فى قاعة العدالة من قبل الإله أوزيريس)، إلا إذا كان الشخص نظيفًا، ويضع كحل العين، ويرتدى الصنادل البيضاء والملابس الجديدة، ويُمسح جلده بأجود أنواع زيت نبات المر.
لذلك، يعد سكان النيل من أوائل من سجلوا طقوس التجميل الخاصة بهم. فكان روتين العناية بالبشرة ضروريًا للنساء المصريات الثريات، اللاتى لم يكن غريبًا عليهن تحضير بشرتهن قبل وضع المكياج، إذ يقشرن البشرة بملح البحر، ويضعن أقنعة مرطبة، إضافة إلى إزالة الشعر بالسكر.. باستخدام عجينة مصنوعة من العسل والسكر ــ وهى تقنية تُمارس حتى يومنا هذا.
انتقالا لنوع آخر من مستحضرات التجميل وهو العطور، فكان عطر «الكيفى» المفضل على مر العصور، وهو عطر أو بخور تفوح منه رائحة «العسل» المنعش للحواس. وقد ورد وصف هذا العطر فى بردية يرجع تاريخها إلى عام 1552 قبل الميلاد. ووفقًا للفيلسوف اليونانى بلوتارخ، كان يُوضع عطر الكيفى ليلا للاسترخاء، وتعزيز النوم، والأحلام المشرقة.
ومع ذلك، لم يكن المكياج فى مصر القديمة يتعلق فقط بإرضاء الحواس أو تهدئة الروح المعذبة. فاعتبرت مستحضرات التجميل ذات قيم روحية ووقائية ضد التأثيرات الشريرة والعناصر اليومية الضارة.
على سبيل المثال، صُنع الكحل لغرض علاجى يتجاوز تجميل مرتديه، وقد تم تطبيقه منذ 4000 قبل الميلاد، للنساء والرجال على حد سواء، للحماية من وهج شمس الصحراء. لمزيد من التوضيح، يصنع الكحل من معدن يحتوى على خصائص مضادة للبكتيريا، ولكن لسوء الحظ، عند استخدامه بانتظام، يُقال إنه يسبب أيضًا الأرق وتهيج العين.
• • •
لم يكن الإغريق والرومان القدماء غرباء على المكياج أيضًا، لكن مواقفهم تجاهه كانت مزيجًا بين الرفض والقبول.
كان الرصاص الأبيض الأكثر شيوعا آنذاك، حيث استخدمته النساء ككريم أساس للحصول على بشرة بيضاء خالية من العيوب. وخلافًا للاعتقاد الشائع، يبدو أن سكان العالم القديم كانوا يدركون جيدًا التأثيرات السامة التى تحدثها كربونات الرصاص على صحتهم. لذا، تصف المصادر الرومانية أعراض التسمم بالرصاص بقدر كبير من التفصيل، ولكن الرغبة فى الحصول على بشرة ناصعة البياض كانت أقوى من أى تفكير عقلانى. لماذا؟ لأن البشرة الفاتحة كانت مرتبطة بنمط حياة مترف، بينما كانت البشرة الداكنة والعيوب تعتبر علامة على الإهمال والعمل اليدوى فى الهواء الطلق. ومن ثم، كانت النساء يحقنّ أنفسهن بالسم للحصول على مظهر «خالٍ من العيوب».
على الصعيد الآخر، كان لهذا الجمال ضريبة.. فمثلا قطرة من العرق أو الحرارة يمكن أن تتسبب فى عواقب محرجة لواضعى هذه المساحيق. يلاحظ الشاعر الرومانى مارسيال كيف يذوب المكياج عند ملامسته للسوائل أو الشمس: «لذلك، إذا كنت تثق بى وبمرآتك، فسوف تخاف من الضحك كما يخشى سبانيوس الرياح، ويخشى مسحوق فابولا من المطر...».
أما العيون فكان هناك الكحل الساحر. كما توافرت بدائل أكثر سهولة أيضا مثل، الرماد والسخام المنبعث من مصابيح الزيت.
يرى بعض المؤرخين أن مكياج العيون كان يستخدم فقط من قبل البغايا لارتباط نظرة الأنثى بالحياة الجنسية، وكان الإفراط فى إبرازها غير ملائم للنساء المحترمات.. وهذه تعد مبالغة طفيفة، حتى لو كان هناك بلا شك صلة بين مكياج العيون والدعارة فى اليونان القديمة وروما.
• • •
الحقيقة هى أن معظم المصادر التاريخية المكتوبة التى تستكشف عالم مستحضرات التجميل كتبها رجال، وموضوعها الرئيسى هو كيفية تأثير مكياج النساء على الرجال، وكيف يشعر الرجال تجاه استخدام النساء للمكياج؟.
كثيرا ما ربط الكتاب اليونانيون الرومان المكياج بخيانة الأمانة. كما أن الكلمة الإيطالية الحديثة للمكياج هى trucco أى (خدعة)، وهو ما يتماشى مع روايات المؤلفين القدماء الذين اعتبروا المكياج دليلا على الخيانة الزوجية وحتى الفجور الجنسى. ففى نهاية المطاف، لماذا تلجأ امرأة صادقة إلى مثل هذا الهراء إن لم يكن من أجل جذب حبيبها أو الاحتفاظ به؟ ربما بدا إرضاء الزوج للبعض غير ضرورى أو غير محتمل. وذهب الشاعر الرومانى جوفينال (ديسيموس يونيوس يوفيناليوس) إلى حد القول إن «المرأة تشترى الروائح والمستحضرات وهى تفكر فى الزنا».
عند الحديث عن الأخلاق، لم يُنسب المكياج عمدًا إلى النساء الشهوانيات فحسب، بل إلى البغايا فى المقام الأول. كان الجنود الرومان النظاميون يطلبون بموجب القانون من البغايا صبغ شعرهن باللون الأشقر أو ارتداء شعر مستعار أشقر لتمييز أنفسهن، لكن المكياج الثقيل كان وسيلة أخرى تستخدمها البغايا لجذب العملاء المحتملين من خلال تحطيم قاعدة الاحتشام الأنثوى المتوقعة.
بشكل عام، كان الخطاب العام هو أن المكياج هو أداة تلاعب تهدف إلى خداع الرجال الطيبين، وجعلهم يعتقدون أن المرأة أجمل مما هى عليه بالفعل. المرأة التى تستخدم المكياج ليست منشغلة بذاتها فحسب، بل قبل كل شىء، محتالة.
جانب سلبى آخر لمستحضرات التجميل وهو استهلاك وقت المرأة، إذ يذكر الكتاب القدماء أن المكياج يستهلك الكثير من الوقت، وهو ما يمثل «إزعاجًا» كبيرًا للنساء اللاتى يحتجن إلى القيام بواجباتهن المنزلية اليومية. وكان التحذير المتكرر هو أن اللائى يركزن على مظهرهن يصبحن كسالى. هكذا، يمتدح الأدب اليونانى والرومانى النساء المجتهدات، ويصفهن بأنهن جميلات الجسد والعقل. بالطبع، أولئك الذين يحتاجون إلى الاهتمام بمسئولياتهم اليومية، مثل إدارة المنزل ورعاية الأطفال، سيجدون المكياج غير عملى. كما أن الحفاظ عليه طوال اليوم سيكون أمرًا صعبًا.
على الرغم من هذه السمعة السيئة للمكياج.. كان الشاعر الرومانى أوفيد من بين القلائل الذين «أيدوا» استخدام مستحضرات التجميل، حتى إنه كتب قصيدة تعليمية بعنوان «علاجات الوجوه الأنثوية»؛ حيث قدمها كعنصر لا مفر منه للحياة الحضرية. «تعرفى على العلاج الذى يمكن أن يحسن وجهك يا فتاة، والوسائل التى يجب أن تحافظى من خلالها على مظهرك»، ثم ينتقل إلى التأثيرات الرائعة لبعض مستحضرات التجميل وخمس وصفات لعلاج الوجه يجب تجربتها.
يقدم أوفيد أيضًا نصيحة إضافية للنساء: لا ينبغى للمرأة أبدًا أن تضع المكياج فى صحبة رجل؛ لأن هذه العملية تحرمها من تقدير النتيجة النهائية. المرأة الذكية تحافظ على مستحضرات التجميل الخاصة بها بعيدًا عن أنظار الرجال، مثل سر صغير قذر: «فبينما أنتِ فى المرحاض، دعينا نعتقد أنكِ نائمة. من الأفضل أن تتم رؤيتك عند إعطاء اللمسة الأخيرة. لماذا يجب أن أعرف سبب بياض خدك؟ هناك الكثير مما يليق بالناس ألا يعرفوه».
جوهر القول، إن الغرض من مستحضرات التجميل، بحسب الشاعر أوفيد، هو أن تشعر المرأة بالجمال. لكن إرضاء الآخرين هو اهتمام ثانوى. تشير ماريا ويك، أستاذة اللغة اللاتينية فى جامعة لندن كوليدج، إلى أنه «ربما يكون أوفيد هو الذى أزال بشكل استفزازى عبادة وزخرفة الجسد الأنثوى من عالم الرفض الأخلاقى».
يعد أوفيد واحدًا من القلائل الذين فهموا النظام الاجتماعى المتحيز جنسيًا فى عصره للذكور، حيث صور فى قصائده التوقعات والانتقادات التى كانت تواجهها النساء. وفى حين يشكل الرجال هويتهم من خلال المشاركات العامة، يتم تعريف النساء من خلال منظور كونهن زوجات وأمهات. فى مجتمع لا تتمتع فيه المرأة إلا بقدر قليل من الحرية، كان المكياج بلا شك أداة للتعبير عن هويتهن الأنثوية.

ترجمة وتحرير: وفاء هانى عمر

النص الأصلى

 

التعليقات