العالم يستعر يوميا بتحديات متراكبة لا يعلم أحد من البشر متى تنتهى أو كيف يكون الخروج الآمن من قبضتها.. تناولنا فى مقالات سابقة التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا، والحرب الروسية ــ الأوكرانية وما نشأ عنهما من اضطراب فى سلاسل التوريد العالمية، وتقلبات حادة فى أسعار مصادر الطاقة والمواد الغذائية والموارد الأساسية، وما تعرض له العالم من تعافٍ مفاجئ للطلب بعد ركود العام ٢٠٢٠، وكان سببا فى موجات تضخمية تاريخية، اضطرت البنوك المركزية إلى تعقبها بالتشديد النقدى (رفع أسعار الفائدة)، وهذا الأخير كان وبالا على مختلف الاقتصادات، خاصة التى تعانى من ارتفاع المديونية الخارجية مثل مصر.. كل ذلك قبل أن تضطرب منطقة الشرق الأوسط بالحرب الأخيرة التى تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية.
أخيرا تمكن الفيدرالى الأمريكى من تحقيق نوع من الهبوط الناعم للسياسة النقدية الأمريكية، إذ لم يتسبب الرفع المتتالى لأسعار الفائدة (من مستوياتها قرب الصفرية عشية الحرب فى أوكرانيا إلى مستوياتها اليوم بين 5.25% و5.5٪) فى إغراق الاقتصاد الأمريكى فى تباطؤ اقتصادى كان متوقعا، حيث عكست معدلات النمو الفصلية، مؤشرات مطمئنة للفيدرالى، كى يستمر فى مطاردة معدل التضخم المستهدف (٢٪) للمحافظة على قوة الدولار ومقاومة الدولرة العكسية.
كان ذلك يعنى أن احتمالات رفع الفائدة الأمريكية فوق المستوى المذكور ما تزال قائمة، فى شهر ديسمبر على الأقل! إذن هذه الأنباء طيبة فى سياق الاقتصاد الأمريكى، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لمعظم دول العالم.. مع ذلك، فلحسن الطالع أن السيد «جيروم باول» رئيس مجلس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، ومن ورائه مؤسسته الكبرى، يتحركون برد الفعل للتطورات قصيرة الأجل، وهو مناط نقد عدد من الاقتصاديين.. هذه الاستجابة للصدمات قصيرة الأجل، ترجح التوقف عن سياسات التشديد النقدى فى أعقاب ظهور نوعين من البيانات خلال الأيام الماضية.. أولا: تراجع معدلات التوظف الأمريكية فى شهر أكتوبر 2023 عن المعدل المتوقع، بما يؤشر إلى تضرر الاقتصاد الأمريكى من أى تشديد جديد، من شأنه التعزيز من فرص التباطؤ الاقتصادى.. ثانيا: ظهور بيانات مؤشر أسعار المستهلكين لشهر أكتوبر من ذات العام، لتعكس تحسنا فى معدلات التضخم عن المتوقع، وهو أيضا يدفع فى ذات اتجاه التوقف عن رفع الفائدة التى يقصد بها فى الأساس ملاحقة التضخم كما تقدم.
• • •
الاقتصاد الأمريكى وكذلك اقتصاد دول الاتحاد الأوروبى يتمتعون بمرونة فى امتصاص الصدمات السعرية الناشئة عن الحرب الجديدة فى غزة. فلو استمر أمد الحرب لأطول مما تتوقعه الأسواق، أو اتسع نطاقها ليؤثر سلبا على الطاقة الإنتاجية من النفط ومشتقاته، فتلك الاقتصادات تفرض نوعا استثنائيا من الضرائب على شركات النفط (مثلا) windfall taxes وهى ضرائب تفرض لفترة زمنية للمشاركة فى أرباح الشركات المستفيدة من الحروب والأزمات والصدمات المختلفة، بحيث تستغل إيرادات تلك الضرائب فى دعم الفئات الأكثر تضررا من تلك الصدمات. هذا النوع من الضرائب شديد الحساسية ويجب أن تحسب إيراداته وعواقبه بدقة، وهو ليس مطبقا فى مصر.
على الجانب الآخر من العالم، يمر الاقتصاد الصينى، ثانى أكبر اقتصاد فى الكوكب، والذى عادة ما كان قاطرة النمو الأهم للاقتصاد العالمى (قبل أن تتقدم الهند للعب هذا الدور).. يمر هذا المارد الصينى العملاق بأزمة عقارية طاحنة، لولا مستويات الشفافية المنخفضة فى الصين، لكانت أنباؤها أشد وطأة من أنباء أزمة التمويل العقارى فى الولايات المتحدة التى ضربت العالم خلال عامى 2007/2008.
الاقتصاد الصينى يرقد فوق فقاعة عقارية تريليونية، تتهاوى معها أسعار الوحدات العقارية الخاوية ويتفاقم فيها مخاطر التعثر عن سداد الديون المستحقة من الشركات العقارية العملاقة لصالح البنوك الصينية.. وكذلك يعانى أصحاب الوحدات السكنية من احتمالات متزايدة للتعثر عن سداد قروضهم العقارية، والتى كانت مخططة السداد من غلة استثمار وحداتهم غير المسلمة فى موعدها.. هؤلاء المستثمرون العقاريون يعانون تأخر تسلم وحداتهم العقارية، مما دفع العديد منهم إلى التظاهر من أجل ذلك أمام أبواب كبرى الشركات العقارية، فى واحدة من أكثر الدول المقيدة لحق التظاهر العام فى العالم.
انهيار عملاق العقارات الصينية شركة «إيفرجراند» كان مؤشرا مبكرا على نقاط الضعف الهيكلية داخل قطاع العقارات فى البلاد، والذى يمثل ما يقرب من 25% من الناتج المحلى الإجمالى للصين. كما كشفت شركة «كانترى جاردن»، أكبر شركة خاصة للتطوير العقارى من حيث المبيعات فى الصين، عن خسارة قياسية بلغت 48,9 مليار يوان (6,7 مليار دولار تقريبا) خلال النصف الأول من العام 2023، فى الوقت الذى تعانى فيه من أزمة السيولة التى أصبحت ظاهرة عامة فى قطاع العقارات الصينى خلال العامين الماضيين على الأقل.
ولما كان الحجم الضخم لتلك الصناعة مقترنا بتشابكات كثيرة للقطاع العقارى مع قطاعات أخرى: مثل التشييد والبنا، والصناعات المعدنية، وقطاع التمويل المصرفى وغير المصرفى... فإن مخاطر انتقال الأزمة العقارية إلى مفاصل الاقتصاد الصينى كلها هو أمر شديد الاحتمال. فقد خفضت مؤسسة «مورجان ستانلى» توقعاتها لنمو الناتج المحلى الإجمالى السنوى للصين ليبلغ معدل 4,7% بنهاية العام 2024، بعدما كانت توقعاتها السابقة تشير إلى نمو صينى يبلغ 5%.
هذه الأزمة التى لابد أن ترتد تبعاتها إلى مختلف دول العالم، عبر قنوات العدوى المالية التقليدية، ربما يخفف من حدتها عن أزمة ٢٠٠٨ أنها لم تندلع فى «وول ستريت» الحى المالى الأشهر فى الولايات المتحدة، ولا تحدث فى الدولة المصدرة للدولار (عملة الاحتياطى والتداول وتقييم الديون فى أسواق المال العالمية).. لكن انفتاح الاقتصاد الصينى على الاقتصاد العالمى صار كبيرا فى العقدين الأخيرين. وكذلك فإن الدور التنموى الذى تلعبه الحكومة والبنوك الصينية فى دول نامية عدة مثل دول القارة الإفريقية، لابد وأنه سوف يتأثر بالأزمة.
• • •
كل ذلك وغيره من الأزمات الاقتصادية التى تحيط بمصر بحكم موقعها الجغرافى والتاريخى من الحرب الإقليمية الحديثة فى غزة (على حدود مصر الشرقية).. والأزمات التى تضربها منذ بداية أزمة كورونا وتسببت فى تدفق الأموال الساخنة إلى الخارج، فى اتجاه الدول الغنية ذات المخاطر الاستثمارية الأقل والعائدات الحقيقية الأعلى (نسبيا) على أدوات الدين، بما قدره رئيس الوزراء المصرى بنحو 20 مليار دولار. والأزمات التى تلتهمها داخليا بفعل العجز المزدوج (عجز الموازنة وعجز ميزان المعاملات الجارية فى ميزان المدفوعات) والتضخم الجامح، وارتفاع الدولار فى الأسواق الموازية إلى مستويات مقلقة، وبفعل ارتفاع تكلفة خدمة الديون التى زادت فى أول شهرين من العام المالى الحالى بنحو 160% عن الفترة المناظرة من العام المالى السابق! هذا فضلا عن تعثر المباحثات مع صندوق النقد الدولى، وارتفاع تكلفة الدين الخارجى والداخلى بفعل تراجع التصنيف الائتمانى لمصر بصورة منتظمة، إلى مستويات شديدة المخاطرة أقرب إلى التعثر.. وكذلك فى سياق تأخر تخارج الدولة من الشركات التى تزاحم فيها القطاع الخاص، وترسل برسائل سلبية إلى مؤسسات التمويل والمستثمرين على حد سواء، كما تؤخر المتنفس الوحيد للحكومة (على ما يبدو) لحل أزمة الندرة الدولارية فى الأجل القصير جدا.
الحكومة المصرية تحتاج إلى مواجهة تلك الأزمات الاستثنائية بحلول وبدائل استثنائية، تسير بشكل موازٍ مع دولاب العمل اليومى حتى لو اضطرت البلاد إلى تشكيل حكومة موازية لإدارة الأزمة بقدرات وكفاءات مختلفة عما هو متاح. البنك المركزى عليه أن يتخذ قرارات السياسة النقدية بالتنسيق ولكن ليس بتأثير وضغط من المالية العامة!.. وهناك الكثير من الحلول التى طرحناها بانتظام فى هذه المساحة وسوف تتسع بإذن الله لمزيد من المقترحات فى مقالات قادمة.