ربما نعرف أن الشدياق كان أديبا بارعا مجددا فى الأساليب العربية، وأنه خلف لنا خمسين كتابا و22000 بيتا من الشعر.
وربما نعرف أن «الشدياق» لقب من ألقاب الشرف التى تطلق على كبار القوم من المتعلمين والكتاب الذين يرتفعون عن طبقة الأميين، وأن فارس بن يوسف بن منصور الذى اشتغل فى بداية حياته بنسخ الكتب بعد أن تعلم بمدرسة «عين ورقة» كان يرى أن الطباعة هى السبيل الوحيد لكسر احتكار المعرفة واقتصارها على فئة محدودة من النخبة العربية المثقفة.
وربما نعرف أنه عندما جاء إلى مصر عام 1825 عمل مصححا ومحررا فى الوقائع المصرية، فكان أول عربى يمارس مهنة الصحافة فى الوقائع المصرية مستخدما عبارات مرسلة رصينة كانت جديدة على أهل هذا الزمان الذى يميل إلى السجع، وأنه قد أصدر عام 1860 صحيفة «الجوائب» السياسية الأسبوعية وكانت تطبع بالمطبعة السلطانية بالأستانة، حتى أسس لها عام 1870 مطبعة خاصة تحمل اسمها.
كما أنه عند بدء عمل المطبعة التونسية عام 1860 وصدور جريدة «الرائد التونسى» شارك فى تحريرها أيضا ليصبح أول صحفى عربى محترف بامتياز.
وربما نعرف أن فارس الشدياق كان من أوائل المدافعين عن حقوق المرأة قبل قاسم أمين نفسه، وقد تجلى هذا فى كتابه «الساق على الساق فى معرفة الفارياق»، والكتاب يصور حياة بطله «الفارياق» وهو اسم خيالى مصاغ من توليفة لشطرى اسم الكاتب ولقبه، وقد جاء معظمه فى شكل حوار بينه وبين زوجته الفارياقة الذكية المثقفة الواعية. وربما نعرف أن هناك بعض الباحثين وعلى رأسهم الدكتورة رضوى عاشور يؤيدون بقوة أن يكون هذا الكتاب الذى ألفه عام 1855 هو النواة الأولى للرواية العربية.
لكننى حريص على أن نعرف أن الشدياق كان أول من أدان التعصب الدينى وشدد على الاعتراف بالآخر ونبذ التفرقة الدينية والمذهبية، فالأديان فى رأيه لا تتوخى سوى الحض على مكارم الأخلاق والأمر بالبر والدعة والسلم، ولا تبيح اضطهاد المخالف فى الرأى والتفكير، أما ما خالف القوانين السياسية والاجتماعية فللمحاكم المدنية وحدها حق النظر بشأنه.
وقد كانت سيرة الشدياق مثلا حيا للاضطهاد الطائفى والتسامح الدينى فى آن، حيث يبرز خلالها بوصفه بطلا دراميا استطاع أن يتغلب على الصعاب ليعود منتصرا إلى مسواه الأخير.
فقد بدأت مشكلته عندما تحول شقيقه الأكبر وأستاذه أسعد من المارونية إلى البروتستانتية بتأثير مبشر أمريكى يدعى جوناس كينج كان يعلمه العربية فى دير القمر، فتم حبس أسعد والتنكيل به حتى توفى بمحبسه وهو فى ريعان الشباب.
لهذا فر فارس إلى مصر خوفا من الاضطهاد الطائفى عام 1825 لأنه كان قد اعتنق البروتستانتية مثل أخيه، وهناك أحب ابنة تاجر سورى كاثوليكى وافق بعد معارضة على زواجه منها بشرط أن يصبح كاثوليكيا ولو ليوم واحد.
وفى عام 1834 دعاه الأمريكان إلى مالطا للتدريس فى مدارسهم وتصحيح الكتب العربية الصادرة من مطبعتهم، ومكث لديهم 14عاما عاد خلالها إلى البروتستانتية، ثم سافر إلى لندن عام 1848 بدعوة من جمعية الأسفار المقدسة للمشاركة فى ترجمة الكتاب المقدس للعربية.
وفى عام 1857 انتقل للإقامة فى تونس بدعوة من الباى أحمد الذى بعث إليه سفينة خاصة، وهناك تبحر فى علوم الإسلام وعقائده فأسلم وسمى نفسه أحمد، وأضيف إلى اسمه لقب الشيخ، وتكنى بأبى العباس، وظل مسلما بعد انتقاله إلى الأستانة التى مات بها عام 1877.
وقد أوصى الشدياق بدفن جثمانه فى وطنه، فكانت جنازته الأولى فى 20 سبتمبر بالأستانة موكبا رائعا لرجال العلم والسياسة وأقطاب القلم، ثم كانت جنازته الثانية ببيروت فى 25 أكتوبر موكبا رائعا أيضا تصدره الشيخ عبدالباسط الفاخورى مفتى بيروت الذى صلى عليه فى الجامع العمرى، بعد أن تم الاتفاق على دفنه بعد صلاة متعددة الديانات فى موقع يتوسط المنطقتين المسيحية والدرزية من جبل لبنان، ثم نقل بعد هذا إلى مقبرة خاصة فى «الحازمية» قرب مدينة بيروت حيث ابتاع له أهله أرضا ليدفن بها.
وقد ظل اللبنانيون ينبهرون حتى سنوات قريبة من رفع الصليب والهلال معا على قبره، قبل أن تهدمه الجرافات من أجل إنشاء الأوتوستراد، حيث أصبحوا الآن لا يعرفون أين نقل مدفن الشدياق؟ وأصبحنا لا نعرف أين قبرت مسيرته؟