قبل نحو عام جرى تقديم معطيات مثيرة للقلق إلى قيادة الأركان العامة، ولكن حتى اليوم لم يكشف عنها للجمهور. فالجيش الإسرائيلى يواجه أزمة نوعية فى وحداته البرية، والمقلق أكثر يتجلّى فى مستوى «رتب صغار الضباط»، كما تتقلص قدرة الجيش على تجنيد مقاتلين من جميع طبقات السكان ومن شأن ذلك أن يضر تدريجيا بنوعية القادة الذين وفق النهج الإسرائيلى يبرزون فى أغلبيتهم من بين صفوف المقاتلين.
لقد لاحظت دائرة العلوم السلوكية فى الجيش الإسرائيلى خلال السنوات الأخيرة تآكلا متواصلا فى استعداد مجندين من مجموعات النخبة الذين يعتبرهم الجيش ذوى مؤهلات عالية فى الانضمام إلى الوحدات البرية. فالعديد من المجندين من الذين يتمتعون بكفاءات عالية، خصوصا من سكان أحياء ومستوطنات راقية، يفضلون الخدمة فى وحدات تكنولوجية تتمتع باعتبار (prestige) أرفع، على الخدمة فى الوحدات المقاتلة. إن نموذج المقاتل الذى قدسه الجيش الإسرائيلى منذ تأسيسه ويواصل تمجيده أصبح معرضا للخطر.
تبرز المشكلة الأخطر فى أسلحة البر «الرمادية» مثل سلاح المدرعات والهندسة والمدفعية. وهى أقل ظهورا فى ألوية سلاح المشاة، وغير موجودة بتاتا فى وحدات النخبة. لكن الأرقام تحمل دلالة قاطعة: فالشباب من مجموعات ذات نوعية عالية، حتى لو كانوا يتمتعون بمؤهلات طبية تسمح لهم بالقتال، يفضلون فى معظم الحالات وحدات السايبر والطائرات من دون طيار، ومنظومة الدفاع الجوية وسائر الاختصاصات المرتبطة بالتكنولوجيا المتطورة على الخدمة الشاقة فى وحدات البر. وفى السنوات الأخيرة لوحظ هبوط حقيقى يقدر بنحو 20% فى استعداد هذه المجموعات من السكان للخدمة فى مهمات قتالية أساسية.
يمتاز الجيش الإسرائيلى بالمقارنة مع جيوش غربية أخرى تعتمد على تجنيد متطوعين تأتى غالبيتهم من طبقات اجتماعية فقيرة، بميزة بالغة الأهمية تكمن فى قدرته على تجنيد جنوده من أغلبية الشرائح السكانية لليهود فى الدولة. صحيح أن نسبة المجندين من مجموع الجمهور فى انخفاض لكن على الرغم من ذلك ففى سنة 2017 تصل الأغلبية الساحقة من الشباب والشابات اللواتى فى سن الـ18 ومن أصحاب المؤهلات العالية إلى جهاز الفرز العسكرى، وفى إمكان الجيش توزيعهم كما يشاء. فتركيز الجيش فى السنوات الأخيرة على المهمات التكنولوجية، بالإضافة إلى الفائدة الشخصية التى يرى المجندون من ذوى المؤهلات العالية فى هذه المناصب، صارت تجذب إليها فى السنوات الأخيرة المزيد من الشباب الممتازين. وليس مصادفة أن أغلبية الجنود الذين يأتون من طبقات اجتماعية معينة ــ بصورة خاصة من أبناء الطبقة الوسطى وما فوق الوسطى من وسط البلد، وليس من الأطراف ــ بدأوا يختفون من الوحدات القتالية. ومن النتائج التى بدأت مؤشراتها الأولى فى الظهور هى انخفاض نوعية القادة فى جزء من المنظومات القتالية.
لدى الجيش اليوم نخبة أقل لينتقى من بينها الضباط النوعيين المستقبليين للخدمة فى الوحدات القتالية. وأصبح يستند أكثر إلى قادة يأتون من الأطراف، سواء لأن هؤلاء لا يزالون يرون فى الانضمام إلى الوحدات القتالية إمكانية للارتقاء الاجتماعى، أو لأنهم مقتنعون أكثر بأهمية المهمة. وتأتى مجموعة أخرى من نوعية عالية من تيار الصهيونية الدينية حيث سمعة الخدمة فى الوحدات القتالية لا تزال كبيرة. لكن الاختيار والتنوع فى مصادر القوة البشرية فى الوحدات القتالية تضررا وهذا يؤثر على مستوى القيادة.
إن استمرار انزلاق المجندين من الوحدات القتالية إلى الوحدات التكنولوجيه يساهم فيه الجيش نفسه. فالثورة التى أحدثها اللواء كوخافى خلال فترة توليه رئاسة الاستخبارات العسكرية، والتى شددت على قدرة الاستخبارات على تقديم معلومات قتالية مهمة فى زمن حقيقى إلى الوحدات القتالية، عززتا من شرعية اختيار مهمات استخباراتية حتى من جانب الذين يتمتعون بمؤهلات قتالية. كما أعطى النجاح الاستخباراتى العملانى فى الحرب الأخيرة فى غزة 2014 مصداقية لزيادة كبيرة إضافية فى ملاك هذه الوحدات.
ترافق هذا التوجه مع ميل الجيش فى العقود الأخيرة (والذى يحاول أيزنكوت لجمه) تفضيل حروبا «نظيفة» تدار عن بعد وتقلص احتمالات التورط وتكبد خسائر، لكنها عمليا يصعب عليها التوصل إلى حسم أو إلى نتيجة قريبة منها. على هذه الخلفية يسهل الجيش إلى حد بعيد وصول الشباب الملائم إلى مناصب فى الجبهة الدخلية تتمتع بأهمية على حساب القتال.
من المعقول أيضا أن الغرق المتواصل لوحدات سلاح المشاة والمدرعات فى أعمال شرطة مملة ورتيبة فى الأراضى المحتلة، التى برز ثمنها الأخلاقى فى محاكمة أزرايا، يبعد عنها جزءا من المجندين تماما مثلما يجذب إليها مجندين آخرين.
ثمة ظاهرة إضافية هى الارتفاع الكبير فى عدد المقاتلين الذين يحتاجون إلى مساعدة اقتصادية من الجيش بسبب مشكلات عائلية. لقد لاحظ الجيش الصعوبة الكامنة فى ذلك قبل بضعة سنوات ويحاول أن يوجه مسبقا جزءا من هؤلاء الجنود إلى الخدمة فى قواعد مفتوحة تسمح لهم أيضا بالمساهمة فى إعالة عائلاتهم. بالإضافة إلى ذلك فإن زيادة عمق الفجوات الطبقية فى إسرائيل يؤثر على ما يجرى فى الوحدات القتالية. والمسافة التى تفصل بين وحدة 8200 [الوحدة المسئولة عن التجسس الإلكتروني] وبين لواء كفير [لواء مشاة فى الجيش الإسرائيلى مركزه الضفة الغربية] لم تكن يوما بهذا الحجم. يعرف الجيش ذلك لكنه يحتاج إلى جهد متواصل ومكثف للبدء فى تغيير هذا التوجه.
عاموس هرئيل
هآارتس
محلل عسكرى
نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية