تبدو الحرب ضد الفساد هى العنوان الأبرز لمرحلة ما بعد 25 يناير، ولا غرابة فى هذا، فلو لم يكن الفساد لما قامت الثورة أصلا، وقد شهدنا خلال النصف الثانى من عمر النظام السابق، تحولا نوعيا فى منظومة الفساد، صار فيها النظام هو الراعى الرسمى للمنظومة كلها، يديرها بكفاءة باهرة، لم نلمسها فى إدارته لأى من مرافق الدولة ومواردها .
سمحت هذه الرعاية بأن تمتد أذرع الفساد فى كل الاتجاهات، وأن تنتقل بسهولة ويسر من الشرائح العليا للبيروقراطية الحكومية إلى ما دونها، وتسابق للحاق بركابها فئات عدة كانت عصيّة على الإفساد، وشيئا فشيئا اتسعت الدائرة وتشابكت الخيوط، حتى صار المجتمع كله قائما على الفساد، وصرنا جميعا فاسدين بالصمت أو بالمشاركة، وتبدل مدلول الكلمات، حتى صارت الرشوة إكرامية، وتفتيح المخ ضرورة لتسيير الأعمال.
تلك هى المعضلة التى تواجهنا فى هذه الحرب الشرسة، وتخيل معى لو أن أفغانستان أو كولومبيا قررتا فجأة القضاء على تجارة المخدرات التى يقوم عليها اقتصاد البلدين، أو أن مصر وضعت نهاية لاقتصاد «بير السلم» الذى يتحكم فى أكثر من 50% من حركة السوق اليومية، هل يبقى البناء على حاله؟
ليس هذا دفاعا عن الفساد بحال، ما أقصده أن نحدد لسهامنا مواضعها ومواقيت إطلاقها، فنستهدف فى مرحلة أولى ناهبى ثروات البلد ومافيا الأراضى ومفسدى الحياة السياسية من رموز النظام وأذنابه، وسيؤدى فتح هذه الملفات بالضرورة إلى الإيقاع بآخرين لم يكونوا فى الحسبان، وسيتكفل إصلاح حياتنا السياسية وإعلاء فكرة العدالة الاجتماعية بالفاسدين الصغار، فلن تكون 25 يناير ثورة بحق لو أنها اكتفت باستعادة المليارات المنهوبة ووزعتها على الناس، وبقى التعليم على حاله: دروس خصوصية وغش جماعى وتسريب امتحانات وابتزاز وتواطؤ فاضح على التدليس والمداهنة، ومدارس وجامعات تكرس لغيبوبة ألجمتنا ثلاثين عاما، هذا هو الفساد الأكبر كما أراه وكما صنعوه طيلة حكمهم الشائن البائد، والأمر ذاته ينسحب على مرافق الدولة كلها: الصحة والزراعة والصناعة والمواصلات والإعلام... إلخ.
مطاردة فاسدى النظام وتابعيهم عمل قضائى بالدرجة الأولى، وينبغى على الوطنيين الشرفاء وجهات الرقابة، أن تضع كل ما لديها بين يدى النائب العام كى يعاقب المجرمين بجرمهم، دون أن نستنزف طاقتنا فى هذه المعركة التى لن تتوقف قريبا، بالنظر إلى حجم الفساد وعدد المشاركين فيه.
لا عفى الله عما سلف، وليس مقبولا بحال أن يطل علينا فى العهد الجديد من زيّنوا للنظام السابق جرائمه، ولذا فإننى أنحاز للرأى المطالب بإطالة أمد الفترة الانتقالية، كى نعطى فرصة للأحزاب القديمة لترتيب أوراقها، وللأحزاب الجديدة المعبرة عن شباب الثورة أن تطرح برامجها مع التعديلات المتوقعة فى قانون الأحزاب السياسية، فليس على الساحة الآن سوى قوتين منظمتين جاهزتين للمنافسة: الإخوان المسلمون وبقايا الحزب الوطنى، ولا أظن أن أرواح الشهداء سيرضيها أن تئول ثورتهم إلى هذا المصير.