عن «التفرد الأمريكي».. وجوانبه المعتمة - نبيل مرقس - بوابة الشروق
السبت 22 فبراير 2025 10:26 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عن «التفرد الأمريكي».. وجوانبه المعتمة

نشر فى : الجمعة 21 فبراير 2025 - 7:15 م | آخر تحديث : الجمعة 21 فبراير 2025 - 7:15 م

 «تخفيف المعاناة الإنسانية.. سوف تستمر الولايات المتحدة الأمريكية فى قيادة العالم فى أعمال «المساعدة الإنسانية»… سوف نقدم العون من أجل توفير الأمن الغذائى والبرامج الصحية التى تنقذ الحياة وتواجه الأسباب الجذرية للجوع والمرض. سوف نقدم المساعدة للنازحين على مقربةٍ من أماكن عيشهم، وسوف نساعدهم على تلبية احتياجاتهم حتى يستطيعوا العودة بطريقة آمنة وبشكلٍ طوعى إلى موطنهم الأصلى».

 

دونالد ترامب، استرتيجية الأمن القومى للولايات المتحدة الأمريكية، ديسمبر 2017، ص 42.

 

«قطاع غزة الذى أصبح رمزا للموت والدمار لعقودٍ عديدة، ومكانا سيئ الحظ لسكانه الذين عاشوا فيه وحاربوا من أجله وماتوا على أرضه وعانوا وجودا بائسا هناك. سوف نوفر أماكن جديدة لمليون وثمانمائة ألف من الفلسطينيين يعيشون فى غزة حتى ننهى الموت والدمار وسوء الحظ، ويمكن تدبير التمويل اللازم لذلك من الدول الغنية المجاورة. وستضع الولايات المتحدة قطاع غزة تحت سيطرتها وسوف ننجز مهمتنا به أيضا، سوف نمتلكه».

• • •

 

فى بدايات عام 1997، جاءت زيارتى الوحيدة للولايات المتحدة ولمدينة بالتيمور، أكبر مدن ولاية ميريلاند وعاصمة أمريكا السوداء فى القرن التاسع عشر (راجع مقالى فى جريدة الشروق بعنوان «بالتيمور الجديدة» فى 24 فبراير  2023 ). ذهبت كباحثٍ زائر يلتحق بمركز دراسات المجتمع المدنى بجامعة جونز هوبكنز، قارعًا على استحياء أبواب المجتمع الأمريكى للمرة الأولى فى حياتى. كنت أبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة تؤرقنى عن ظاهرة «المجتمع المدنى» ودوره فى سياق موطنه الغربى، وأيضا دوره المحتمل الذى يجرى استنباته فى مجتمعات الجنوب العالمى ــ النامية والمتعثرة على طريق النمو ــ الباحثة عن طريقها الخاص نحو الحداثة والتنمية والديمقراطية. بينما يدور فى أعماقى سؤالٌ أكثر إلحاحًا عن معنى وجوهر «التَفَرُّد الأمريكى» من حيث جذوره فى التاريخ وتجلياته فى الحاضر، وعلاقته بزعم الولايات المتحدة أنها القطب الأوحد لعالمنا المعاصر.

• • •

كان ذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى بداية التسعينيات من القرن الماضى وبعد إعلان الولايات المتحدة عن قطبيتها المنفردة من خلال حرب تحرير الكويت. وقد بدت تلك الحرب المدعومة عربيا وكأنها ردٌ على غزو العراق للكويت. ثم تحولت بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 إلى حرب أمريكية «استباقية» على العالم العربى موطن جماعات الجهاد الإسلامى. فبدأت باحتلال العراق عام 2003 وتدمير مؤسسات دولته «الاستبدادية». ثم تجمعت سحب «الفوضى الخلاقة» التى بشرتنا بها كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية فى إدارة جورج بوش الابن، لتتخذ مظهرا جديدا على الأرض فى انتفاضات الربيع العربى عام 2011 المدعومة من إدارة باراك أوباما. تلك الانتفاضات الاحتجاجية التى أسقطت الأنظمة القائمة فى تونس ومصر وليبيا واليمن.. وسوريا مؤخرًا. وما برحت «الفوضى» المدعومة من الخارج والمتعثرة على طريق «خلق» البديل، تمزق أحشاء السودان واليمن وليبيا.

ويُعَرف موقع Britannica.com «التفرد الأمريكى» American   Exceptionalism  بأنه الفكرة التى استقرت فى أذهان الكثيرين بأن الولايات المتحدة هى بلدٌ فريد يتسم بالتفوق الأخلاقى لأسبابٍ تاريخية وأيديولوجية ودينية. ويقترن هذا الاعتقاد بالزعم بأن الولايات المتحدة تقع عليها مسئولية القيام بدور خاص فى السياسة الدولية. بالمقابل يُعَرِّفْ موقع ويكيبيديا «التفرد الأمريكى» بأنه العقيدة التى تتضمن اليقين لدى معتنقيها بأن القيم والنظام السياسى والتطور التاريخى للأمة الأمريكية يضعها فى موقع متميز فى سياق التاريخ الإنسانى، ويجعلها مؤهلة أن تلعب دورا مميزا وإيجابيا على المسرح العالمى.

ويضيف يوهانز تيم من مؤسسة SWP الألمانية، فى ورقته المعنونة «التفرد الأمريكى: تصورات مفاهيمية وأدلة تستند إلى التجربة العملية» أن أحد عناصر «التفرد الأمريكى» يتعلق بالاعتقاد السائد عند كثيرين داخل الولايات المتحدة -عن صوابٍ أو خطأ ــ أن السياسة الخارجية الأمريكية تستند إلى دوافع ومبادئ أخلاقية (راجع المقتطف فى مقدمة هذا المقال من استراتيجية ترامب للأمن القومى فى ولايته الأولى). ويؤكد تيم مستندًا إلى متابعة السلوك الفعلى للإدارات الأمريكية المتعاقبة، أن عقدة «التفرد الأمريكى» تجعلها غير قابلة للانصياع تحت مظلة التنظيمات الدولية متعددة الأطراف أو الخضوع لضوابط وأحكام القانون الدولى. وربما تدفعها إلى العمل المنفرد خارج أى إطارٍ حاكم من القانون الدولى أو من الالتزامات المتبادلة التى تحكم علاقتها بالآخرين، فهى تمنح نفسها حقوقًا بعينها تنكرها على الآخرين. وهو ما نراه بوضوح فى اللحظة الراهنة فى محاولات إدارة الرئيس الحالى دونالد ترامب التنصل من التزاماتها الدولية سواء فى سياق عضويتها فى منظمة التجارة العالمية (التى تمنع الفرض التعسفى للرسوم الجمركية على الواردات والتى قد تشعل حروبا تجارية مع الشركاء الآخرين) أو فى علاقتها بأعضاء حلف شمال الأطلنطى، والذى تلزمها بنود معاهدته متعددة الأطراف أن تشارك فى تحمل أعباء الدفاع عن أى عضو من الحلف يتعرض أمنه القومى لمخاطر جسيمة.

• • •

وفى هذا السياق يمكن لنا أن نرصد الكثير من الجوانب المعتمة فى ممارسات «التفرد الأمريكى» على الساحة الدولية، من حيث تصادم هذه الممارسات مع الإلتزام الأخلاقى بقيم الحرية والديمقراطية وسيادة القانون وتحولها فى كثيرٍ من الأحيان إلى ما يشبه «البلطجة السياسية». بدا ذلك جليًا عندما قدم ويليام ماكينلى، رئيس الولايات المتحدة الخامس والعشرين، شروطه لإنهاء الحرب الإسبانية ــ الأمريكية عام 1898 بعرض شراء الجزر الفلبينية من إسبانيا مقابل 20 مليون دولار، وذلك بعد أن تنازلت إسبانيا، القوة الاستعمارية المهزومة، عن حقوقها فى كوبا وبوتوريكو وجزيرة جوام لصالح القوة الاستعمارية الأمريكية الصاعدة.

وهو ما يذكرنا بالعرض الأمريكى المطروح حاليًا للاستيلاء على قطاع غزة ــ خارج مظلة أى تشريع أو قانون دولى ــ مقابل قيام الرئيس الأمريكى بإقناع الدول العربية بدوره كصانع ماهر لصفقات «السلام» فى المنطقة. بدءًا من مشروع تطوير غزة «عقاريًا» لتصبح ريفييرا الشرق الأوسط، وانتهاءً بإقناع المملكة العربية السعودية، ومصر، والأردن بتقاسم الشعب الفلسطينى النازح من أرضه قسرًا وذلك بعد تدمير مقومات الحياة على هذه الأرض بواسطة الجيش الإسرائيلى. وهى النسخة المحدثة من «صفقة القرن» يقدمها ترامب كهديةٍ ثمينة إلى حليفته إسرائيل، فى سياق سعيه الدءوب لتصفية كل ما تبقى من مظاهر التراجيديا الفلسطينية التى تعكر صفو المنطقة. ويظل الجانب الأكثر عتامةً فى البناء النفسى لعقدة التفرد الأمريكى هو الإيمان الراسخ بتفوق «الإنسان الأبيض» على باقى الأجناس والأعراق.

بالرجوع إلى كيت إنجر جروبر، ومقالها الهام «العبودية فى أمريكا الاستيطانية» على موقع Trust Battlefield American، الذى تتناول فيه تاريخ نشأة العبودية وظاهرة تجارة العبيد فى مستعمرات المهاجرين الأوائل. نجد أنه فى سياق الاستيلاء على أراضى أمريكا الشمالية وتفريغها قسرًا من سكانها الأصليين خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ظهرت مؤسسة «العبودية» التى تجسد علاقة «الأمريكى الأبيض» بالسكان الأصليين من الهنود الحمر وبالأفارقة الذين تم استجلابهم قسرًا من القارة السوداء. وقد تنامى الطلب على هذه المؤسسة بسبب ارتباطها بإزدهار زراعة محصول التبغ فى فيرجينيا وميريلاند، ومحصول الأرز فى كارولينا الشمالية وكارولينا الجنوبية.

وتشرح كيت جروبر كيف أنه عندما انتعشت تجارة الإفريقيين المستعبدين قسرًا وزادت أعداد «المنقولين» من القارة الإفريقية إلى المستعمرات الأمريكية، تناقصت بالمقابل أعداد السكان الأصليين الذين يجرى استرقاقهم. وتصف كيت معاناة العبيد على أرض «الحلم الأمريكى: «عومل الإنسان العبد وكأنه «بضاعة» بلا حقوق بشرية. ففى عديد من المستعمرات لا يحق للعبد أن يدلى بشهادته أمام المحكمة، أو يمتلك سلاحًا، أو يجتمع مع أقرانه فى مجموعات، أو يخرج ليلًا للتمشى بعد انتهاء العمل».

ويبدو أن مضمون هذه العلاقة «الاستعمارية» الغاشمة هو ما يحكم علاقة «السيد» دونالد ترامب، بالشعوب العربية التى تتلقى منه المعونات وفى الوقت ذاته تفاجئه برفض الانصياع لشروط صفقته التى تتصادم مع كل قيم «العالم الحر». تلك الصفقة المرفوضة عربيًا ودوليًا، والتى تجعل مصير السكان الأصليين فى غزة لا يختلف فى قليلٍ أو كثير عن مصير الهنود الحمر فى أمريكا الشمالية.. أرض «الحلم الأمريكى»!!

نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات