نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب «غسان شربل»، نعرض منه ما يلى:
للوهلة الأولى ظنَّ كثيرون أن الغمامة السوداء ستغادر سريعا. وخالجهم اعتقاد بأن الأمر يشبه دخول طائرة على نحو مفاجئ إلى منطقة دهمتها عاصفة رعدية. وأنْ لا شىء يفعله المسافر غير الاستماع إلى تعليمات القبطان وهى واضحة: الرجاء ربط حزام الأمان. وأن الخروج من منطقة العاصفة يتوقف على جودة الطائرة وحسن القيادة فيها. والترجمة العملية لربط حزام المقاعد هى ملازمة المنزل وغسل اليدين بصورة متكررة والتزام التباعد وتعقيم كل ما يدخل المكان.
ولم يكن لدى كثيرين شعور بأن عملية «الاعتقال» هذه ستطول. إنجازات الثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة فى العقدين الأخيرين قلَصت مساحات الخوف من المفاجآت التى اعتادت تحدى الذكاء الإنسانى وعادت مهزومة فى غالب الأحيان. والحقيقة أنَ الإنسان أنجز ما يستحق وصفه بوسادة صلبة فى مواجهة المجهول الذى كان يرعب أجداده. أسقط العلم تباعا هالات الغموض والأسرار المتعلقة بالطبيعة والأمراض والمفاجآت المخيفة. لم تعد الزلازل تثير الرعب نفسه الذى كانت تضخه فى عروق الناس حين تندلع. تحدَى الإنسان غضب الطبيعة وتمكَن من إيواء الناس فى أبنية مجهزة لمواجهة هذا النوع من المفاجآت. ولم تعد كلمة الطاعون تثير الرعب على غرار ما كانت تفعل فى حقبات ماضية. السرطان يكاد يفقد هو الآخر قدرته على بث الرعب وإصدار الأحكام المبرمة. لقد تمرَد الإنسان على عالم الخوف والمغاور والفرار. تراكمت الأبحاث فى المعاهد والمختبرات وأنتجت عددا غير قليل من الدروع التى تحمى الناس من الأمراض الفتاكة والأوبئة.
ارتباك العلم والمختبرات أمام جائحة «كورونا» يجب ألَا يهز ثقة الإنسان بما أنجزه الإنسان. لا أريد أبدا التقليل من قسوة ما نعيشه لجهة الخسائر البشرية أو لجهة الخسائر الاقتصادية التى ستتكشف أكثر لدى انحسار الهجوم «الكورونى». لكن قسوة هذه الخسائر يجب ألَا تزعزع ثقتنا بالعلم والعلماء. قسوة المشاهد والروايات يجب ألا توقعنا مجددا فى كهف الأوهام والخرافات والمنجمين. لا بدَ من الشعور وبثقة عالية بأنَ ربط أحزمة الأمان يرافقه أيضا شعور قاطع بأنَ مصير المعركة معروف ومحسوم، وأنَ جنود معركة السلامة والتقدم لن يسمحوا لفيروس غامض بإلحاق الهزيمة بالبشرية. لو قلبنا سريعا صفحات التاريخ لوجدنا أن قتلى «كورونا» لم يتجاوزوا حتى الآن عدد من قتلهم عمل مستبد ارتكبته هذه الدولة أو تلك. وأنَ عدد الوفيات شديد التواضع إذا ما قيس بإنجازات الكوليرا والإنفلونزا الإسبانية وغيرهما من كبار القتلة. ولعلَ الفارق يكمن فى أنَ العالم الحالى يعطى قيمة أكبر للحياة البشرية والمحافظة عليها، فضلا على أنَ هذا الزائر القاتل جاءنا فى عصر العولمة وبحيث صار باستطاعة كل سكان الكوكب أن يتابعوا مباشرة مسلسل ارتكاباته وجنازاته.
أعرف أنَ القصة ليست بسيطة. فجأة وجد الإنسان نفسه معتقلا. ارتضى أنْ يتحول معتقلا لأنَ الخيار الآخر ربما يكون قاتلا له ولمن يخالطهم أو يقترب منهم. عدم الرضوخ لأمر الاعتقال المنزلى يعنى احتمال تحول الفرد إلى قنبلة جوالة تحمل الشؤم والضرر إلى أى مكان تعاقبه بوجودها فيه. فى الأيام الأولى بدت القصة شبهَ عادية كمرور الطائرة فى مطبات هوائية محتملة.
ثم اكتشف الأسير أنَ القصة أبعد من ذلك. خسر أسلوب عيش بلوره على مدى سنوات وخسر روتينا كان يتكئ عليه ويعتبره العمود الفقرى لتوازنه. فقد متعة الاقتراب من الآخر. خسر المصافحة أو العناق والنقاش المباشر والتبادل والاشتباك أحيانا. اكتشف المعتقل أن الآخرين ليسوا زائرا ثقيلا فى يومياته، بل إنهم من صلب هذه اليوميات التى ستتكشف فقيرة وموحشة فى غيابهم.
ويمكن للمرء توهم أنَه يستطيع الاستقالة من الآخرين وتأسيس عالم يدور حوله وحده. يستيقظ فيركض فى أزقة هاتفه وما يحمله من أخبار وصور وتقارير وشائعات. حتى فى زمن «كورونا» لا يتوقف عشاق الإثارة عن مبالغاتهم على رغم غابات النعوش وحقول الدموع. وأخطر ما يمكن أنْ يحدث هو أنْ يُصدق المعتقل كل ما يقرأ أو معظمه. وأنْ تغشه الألقاب. وتخدعه الصياغات والمبالغات. ما ذنب مواطن عادى ليتورط فى متابعة أبحاث اللقاحات والأدوية وحديث «المريض صفر» الذى أصيب فى المختبر ونقل العدوى إلى سوق ووهان التى تبيع الحيوانات البرية واللحوم؟ وما ذنب الإنسان العادى ليغرق فى الاستفسارات عما إذا كان المرتكب الأصلى خفاشا أم غيره، وإن كان المرتكب الثانى حزبيا مهجوسا بالصورة تسبب فى «التستر الحكومى الأكثر تكلفة على الإطلاق»؟
فى الأيام الأولى توهَم صديقى أنَ الحل موجود. بضع ساعات فى العمل عن بعد مع الشركة كى لا تتسرع فى ترشيق راتبه أو أكثر. وبعد ذلك متابعة أخبار الفيروس والأطباء والمحللين الذين يجزمون بأن ما بعد «كورونا» ليس كما قبله. واضح أن ترمب سيصعد اتهاماته للسلطات الصينية بالتستر وإخفاء معلومات وأن «الفيروس الصينى» سيكون حاضرا بقوة فى الانتخابات الأمريكية المقبلة. لكن لا يزال من المبكر توزيع الأوسمة وإحصاء الخسائر. سيمر وقت طويل قبل أن تتضح ملامح ما بعد «كورونا». ظهور «كورونا» أيقظ الميول إلى العزلة، لكن الانتصار الكامل عليه مرهون بأوسع تعاون دولى. هذا يصدق على أوروبا ويصدق على العالم بأسره.
أعرف السؤال الذى يلحُ عليك والذى لا جواب له حتى الآن. تريد معرفة متى يسترجع العالم وتيرة العيش الطبيعية أو شبه الطبيعية. لا الحكومات قادرة على التكهن بدقة ولا العلماء. وفى انتظار ذلك يستمر الإعصار فى توزيع الجثث منذرا بتوجيه ضربة إلى القارة الإفريقية. لم يتعب الإعصار بعد، لكن ذلك لا يعنى أنه لن ينحسر. أما أنت فعليك التسلح بالأمل، وأن تتذكر دائما وصية القبطان بربط حزام الأمان. إن مساهمة المواطن العادى تبدأ بربط حزام الأمان وتعميق التضامن الإنسانى ورفض الانزلاق إلى بؤس الخرافات والأوهام ليتسنى له احتمال ثمن الإقامة فى الإعصار. سيدفع الفرد ثمن هذه الإقامة وستدفع «القرية الكونية» الثمن أيضا من أرواح سكانها واقتصاداتها واستقرار دولها.