هناك معركة مصيرية يتعين على الاقتصاد المصرى خوضها، وواجب عليه تحقيق انتصار حاسم فيها. إنها معركة اقتصادية مع عدو لدود وخصم عنيد. فهذا الخصم يظهر حينما يتراخى معدل النمو الحقيقى للاقتصاد، وينتشر إذا ما تركز هذا النمو فى قطاعات وأقاليم محدودة، ويتفاقم فى غمار زيادة معدل النمو السكانى، ويستمر عندما لا تعطه السياسات الاقتصادية أولوية علاجية تناظر حجم ما يخلقه من مشاكل وأعباء. إنها المعركة ضد البطالة السافرة.
والتسلح الكفء فى المعركة التى يخوضها أى اقتصاد ضد البطالة، تتطلب تحديدا دقيقا لأسباب ظهور وانتشار وتفاقم واستمرار هذا الخصم، وتستدعى اختيار خطط واستراتيجيات التصدى له، وتقتضى معرفة أهم خطوط المواجهة معه، وتحتاج، قبل كل ذلك، لإرادة صلبة لخوض هذه المعركة، حتى تتوافر بذلك العوامل الموضوعية اللازمة لتحقيق الانتصار الحاسم فيها.
***
لم تغب عن ذهنى صورة أرشيفية طالعتها ذات مرة لطابور طويل من الأمريكيين المتعطلين عن العمل يتزاحمون على امتداد أحد الشوارع فى العام 1933، وتظهرهم أثناء تقدمهم للتنافس على خمس وظائف متاحة فى أحد مصانع الولايات المتحدة الأمريكية، فى أعقاب الأزمة الاقتصادية التى ألمت بالعالم خلال تلك الفترة. كما لم يغب عن ذهنى مقطع فيديو للرئيس الأمريكى الحالى فى أولى سفراته الخارجية، يبشر فيه الأمريكيين بأن صفقاته التجارية الدولية تنطوى على إمكانات عالية فى خلق الوظائف داخل الاقتصاد الأمريكى، بافتراض مسئولية سياسات إدارته الاقتصادية عن توفير الوظائف للباحثين عنها. وبين ما تحمله هذه الصورة وهذا الفيديو من معانٍ ومفارقات، تساءلت: من يا ترى يتحمل وزر الوقوع فى أسر البطالة السافرة فى اقتصادٍ كالاقتصاد المصرى؟! أهى مسئولية الحكومة وصانعى السياسات الاقتصادية، أم هى مسئولية الشركات العامة والخاصة، أم هم الأفراد المتعطلون أنفسهم؟!
والحق، إن هذا السؤال ليس بجديد فى حقول الدراسات الاقتصادية. إذ إنه قد حاز على اهتمام بالغ من الباحثين فى المشكلات الاقتصادية، وخرجت للنور العديد من الدراسات والبحوث التى تحاول الإجابة عليه. وليس فى ذلك مبالغة وتكرار من جانب هذه الدراسات والبحوث؛ فمشكلة اقتصادية عويصة كمشكلة البطالة لها العديد من المسببات، وينتج عنها العديد والعديد من الآثار السلبية، ويمكن النظر إليها من زواياها المتعددة. غير أن الدراسات التى تصدت لمعالجة هذه المشكلة قد أجمعت على قبول ــ بدرجات متفاوتة ــ ثلاث فرضيات لتفسير ظاهرة البطالة السافرة. وكانت الفرضية الأولى تتمثل فى غياب التوافق بين المهارات التى اكتسبها العامل من العملية التعليمية وبين والمهارات التى يطلبها سوق العمل. ودارت الفرضية الثانية حول مشكلة انجذاب وتحيز الباحثين عن العمل للوظائف العامة فى الحكومة مقارنة بالوظائف المتاحة فى القطاع الخاص؛ نظرا لتمتع الأولى ببعض سمات الأمان والاستقرار الوظيفى، وغياب هذه السمات عن الثانية. أما الفرضية الثالثة، فهى محدودية الاستثمارات المنفذة فى الاقتصاد، كنتيجة مباشرة لوجود «فجوة تمويلية» متسعة بسبب شح مصادر الادخار فيه.
ولو تأملنا فى هذه الفرضيات الثلاثة، لوجدنا أنها تجيب بطريقة غير مباشرة عن السؤال الذى دار فى ذهنى حول من يتحمل وزر مشكلة البطالة السافرة فى مصر. ذلك أن الفرضية الأولى تشير بأصابع اللوم للنظام التعليمى الذى لا يراعى احتياجات سوق العمل، وتقصيره فى مواكبة الاحتياجات الفعلية لهذه السوق سريعة التطور. لكنّ هذا اللوم لا يوجه فقط للقائمين على العملية التعليمية، بل هو فى الحقيقة يحمّل جميع الأجهزة الحكومية (وبالأخص المرتبطة بسوق العمل) جزءا أصيلا من المسئولية عن هذه المشكلة. والفرضية الثانية تحيل المشكلة لعوامل نفسية لدى المتعطلين عن العمل، لتثبت أن معاييرهم وتحيزاتهم أثناء البحث عن الوظائف تُشتت بوصلتهم، وتجعلهم يقعون أسرى لهذه البطالة السافرة. كما أن الفرضية الثالثة تشير، ضمنا، لتقصير وحدات القطاع الخاص عن التوسع الاستثمارى الذى يزيد من الطلب على العمالة فى سوق العمل المصرية.
وكما هو معلوم من الاقتصاد بالضرورة، فإن فرضية واحدة لا يمكن الاعتداد بها منفردة فى تفسير أى مشكلة اقتصادية. فمن نافلة القول أن الفرضيات الثلاثة السابقة تتشارك فى تفسير مشكلة البطالة فى الاقتصاد المصرى. فهناك إذن لوم يوجه للحكومة، وآخر يوجه للمتعطلين، وثالث يوجه لوحدات القطاع الخاص. غير أننى أرى طرفا رابعا، بالإضافة للملومين الثلاثة، يندر ذكره وتوجيه اللوم إليه فى تسبيب مشكلة البطالة فى حالة الاقتصاد المصرى، رغم أنه يتحمل جزءا أصيلا من هذا الوزر. فطالما أن الاقتصاد المصرى منفتح على العالم الخارجى، فيمكن لهذا الخارج أن يتسبب فى خلق وتعميق مشكلة البطالة السافرة فى الداخل. فعندما ترتفع وتيرة العمالة العائدة من الخارج، وعندما يتراجع الطلب على صادرات هذه العمالة بفعل عوامل خارجة عن إرادة الاقتصاد المصرى، أو حتى عندما يتراخى الطلب على الصادرات السلعية والخدمية الأخرى، وعندما تشتد منافسة الواردات للمنتجات المحلية، سنكون إزاء حالة يزيد فيها الداخلون الجدد فى أسر البطالة. فكما يوجد فى التحليل الاقتصادى «تضخم مستورد»، ها نحن الآن أمام «بطالة مستوردة»!
***
لننظر الآن لتطور أعداد الواقعين فى أسر البطالة السافرة فى الاقتصاد المصرى. فوفقا لتقديرات منظمة العمل الدولية، فقد تراجعت أعدادهم خلال السنوات الخمس الماضية حتى وصلت فى العام 2018 لنسبة 11.4% من إجمالى قوة العمل المصرية، بعدما كانت هذه النسبة 13.1% فى العام 2014. أى أن الاقتصاد المصرى قد نجح فى تحرير نسبة معتبرة من أسر البطالة خلال تلك الفترة. ومع الإشادة بهذا النجاح المهم، يتعين على المرء أن يدرك أسبابه ومقوماته، وأن يعلم مدى ارتباطه بالفرضيات التى عُرضت آنفا، لكى يستطيع اقتراح بدائل تعزز من فرص استمرار وزيادة هذا النجاح فى المستقبل.
ولعل جوهر هذا النجاح يعزو، بنسبة كبيرة، للتحسن الذى طرأ على الاستثمار فى قطاع البنية الأساسية خلال هذه الفترة. فهو قطاع كثيف العمالة، وتربطه بالقطاعات الأخرى روابط متنوعة، وتتنوع فيه درجة المهارة العمالية المطلوبة، وبما يجعله ملائما للأوضاع الراهنة لسوق العمل المصرية. وبالنتيجة، يمكننى الانتهاء إلى أن النجاح الذى حققه الاقتصاد المصرى فى تحرير بعض من أسرى البطالة لم ينشأ من ردم ملموس للفجوة القائمة بين مخرجات التعليم وبين احتياجات سوق العمل، ولم يحدث نتيجة لتغير فى جاذبية القطاع الحكومى للباحثين عن العمل، ولا يفسره نمو مستقر فى استثمارات القطاع الخاص، ولم يسببه تحسن ملحوظ فى ميزان الصادرات العمالية والسلعية والخدمية. وأمام هذه النتيجة، سيكون الطريق ممهد للاقتصاد المصرى لتحقيق انتصار حاسم فى معركته ضد البطالة، بشرط أن يتسلح بالسياسات التراتبية التالية:
• لتهيئة الاقتصاد المصرى لمعركته الحاسمة مع البطالة، ستكون نقطة البداية الصحيحة هى إعادة النظر فى المنهج الحالى لإصلاح التعليم والتدريب. وفى هذا الخصوص، ليس من المقبول أن نستهلك طاقاتنا ومواردنا فى إعادة اختراع العجلة. إذ لا أرى أى غضاضة فى استيراد نموذج تعليمى وتدريبى أثبت نجاحه فى ربط احتياجات سوق العمل بمخرجاته المتنوعة، ثم توفيقه مع الأوضاع المصرية. ويمكن أن يكون النظام التعليمى الكورى تجربة جديرة بالدراسة والتحليل. وبالإضافة لإصلاح منظومة التعليم والتدريب، فإن تهيئة الاقتصاد المصرى لذات المعركة تحتاج طفرة فى التوعية المقدمة للداخلين الجدد لسوق العمل، لتتطور معها معاييرهم وتحيزاتهم حتى تلاءم أحاول سوق العمل. وأعتقد أن «الاعلام التنموى» يتحمل العبء الكامل لهذه التوعية.
• وبنجاح سياسات التهيئة، تكون سياسات زيادة الطاقة الاستيعابية لسوق العمل المصرية هى السلاح الثانى فى المعركة الحاسمة مع البطالة السافرة. ولكى يزيد الطلب المحلى على العامل المصرى، فالقطاع الزراعى يحتاج ــ ضمن ما يحتاج ــ لتنظيم واعى بالأوضاع الحالية للزراعة فى الوادى والدلتا، ولتنظيم مبتكر لأنشطة استصلاح الأراضى الصحراوية. أما القطاع الصناعى فهو فى حاجة لمزيد من الدعم والتيسير التمويلى من البنوك، وفى حاجة لدعم حكومى فى جلب وتوطين التكنولوجيا الحديثة، وفى حاجة لحوافز تدفعه لزيادة تشابكاته الأمامية والخلفية المحلية، وتعينه على فتح الأسواق الخارجية (وفى مقدمتها الأسواق العربية والإفريقية).
• ولن تزيد الطاقة الاستيعابية لسوق العمل المصرية إلا بضمان إصلاح شامل للقوانين والمؤسسات المنظمة لهذه السوق. فلو عززنا من سيادة قانون العمل، ودافع هذا القانون عن الحقوق الأصيلة للعامل فى القطاع الخاص، ودعم أنشطة النقابات والاتحادات العمالية؛ ولو أصلحنا هياكل الأجور وربطناها بالإنتاجية برباط وثيق؛ ولو ضبطنا أداء صناديق التأمينات والمعاشات؛ لو قمنا بكل هذه الإصلاحات المؤسسية، لاختفى التحيز المقيت للوظائف الحكومية، ولقضينا على مظهر مهم من مظاهر قوة خصمنا فى هذه المعركة. ولكى يؤتى هذا الإصلاح المؤسسى أكله، لا بديل أمام شركات القطاع الخاص إلا الإذعان الكامل للقوانين المنظمة لسوق العمل، والكف عن الاستهانة بحقوق العمال، والاستجابة للسياسات الحكومية المطورة لهذه السوق، والاقتناع بدور هذه السياسات فى زيادة إنتاجية العامل المصرى، وكسب ولائه الضرورى لديمومة هذه الشركات.
• وزيادة الطاقة الاستيعابية لسوق العمل المصرية لن يُكتب لها الاستمرار فى المستقبل، إلا إذا أعددنا العُدة لهذا المستقبل. فسوق العمل فى جميع دول العالم يموج بتغيرات عميقة وواسعة. فملايين الوظائف تُلغى كل عام، وتنتصر التكنولوجيا على الإنسان وتزاحمه فى أنشطة لم تكن تتخيلها أكثر العقول نباهة، وتضيق الفرص أمام العمالة غير الماهرة كل ساعة. والنتيجة الحتمية من انتقال هذه العدوى لسوق العمل المصرية، أنه حتى إذا نجحت سياسة زيادة الطاقة الاستيعابية الزراعية والصناعية للعمالة المصرية الآن، فلن تتمكن من الصمود أمام هذه التحولات غدا، إلا بالعمل الدءوب لهذا الغد.
***
إننى أميل دائما للرأى القائل بحتمية تكامل السياسات الاقتصادية كى تصبح أسلحتها وأدواتها فاعلة على الأرض. وعليه، فإن السلاح الأخير الذى يمكن المراهنة عليه فى حسم معركة الاقتصاد المصرى ضد البطالة السافرة، هو كسب ثقة الواقعين فى أسر هذه البطالة، وإقناعهم بأن السياسات الحكومية تسعى حثيثا لتحريرهم من هذا الأسر. ولأنهم، فيما مضى، قد أَلْفَوْا الحكومات تتحيز لغير صالحهم، فهم فى حاجة ماسة لإجراءات تصالحية تعيد إليهم هذه الثقة، حتى يرتقوا من مجرد تحمل مسئولياتهم فى هذه المعركة، ليتقبلوا التضحيات فى سبيل الخروج من أسر البطالة!