جميعنا اجتماعيون بقدر ما، تولد فى أسرة وتنشأ وسط عائلة وتتآلف مع أصدقاء، نتقارب ونتباعد نترابط ونتفارق وفى كل ذلك تحكمنا قيم نطلق عليها القيم الاجتماعية، والواقع ليس من السهل تحديد أو تعديد تلك القيم فهى تظهر وقت الحاجة لتعريفها، هى أقرب لوصف حالة تعامل ومدى تقبلها أو رفضها والحكم عليها، والتعامل عادة طبقا لمفاهيم وموروثات تسود ذلك الاجتماع الإنسانى، ذلك الاجتماع يبدو فى أبهى صوره داخل الأسرة الواحدة، فالأسرة مجموعة من الناس تربطهم أواصر الدم ويضمهم مسكن واحد وتنقسم المسئولية بينهم بشكل غريزى وعفوى ويحكم قراراتهم مبادئ إنسانية أو مشاعر عاطفية أو مفاهيم عقائدية، وقد تنتمى الأسرة بقرابات داخل فصيل من الأسر والفصائل تنتسب لعشيرة، والعشائر فخذ والبطون أفخاذ تضمها عمارة، والقبيلة عمائر فإن تعددت القبائل لنسب واحد أطلق عليها شَعْب، وكل هذا التقسيم الهرمى من أشكال الاجتماع تربطه أواصر الدم وتحكمهم الأعراف بناء على ما اجتمعوا عليه من مبادئ ومشاعر ومفاهيم تشكل فى مجملها قيما اجتماعية توارثوها.
الاجتماع صفة إنسانية، فطالما كنت إنسانا جبلتُ على الأنس، وقد يتآنس العربى مع الأوروبى والصينى مع الإفريقى على غير نسبٍ أو صلات عرقية، ولكنهم يتآنسون داخل مجتمع، فالمجتمع نظام يتآنس فيه الناس على اختلاف اجتماعاتهم، إذا الاجتماع صفة والمجتمع نظام، هذا يقودنا إلى تعريف الأسرة مرة أخرى من الوجهة المجتمعية، فالأسرة نواة الاجتماع؛ حيث تنمو وتتكاثر وينبنى عليها اجتماع أكبر، وقد يتآلف ويتحالف بالمصاهرة فتصير الدماء بين عروق العشائر وتصير البطون قبائل، ولكن الأسرة فى المجتمع هى وحدته الصغرى وليس شرطا أن تكون نواته، تلك الوحدات التى تتسق وتتناسق مع بعضها لتشكل نسقا مجتمعيا يحكمه نظام، قد يشكل اجتماع ما أو أكثر مجتمعا ولكن ليس بالضرورة أن أى مجتمع هو اجتماع واحد، وكلما تطابقت العديد من الصفات الاجتماعية بين الاجتماعات العدة كان المجتمع أكثر تآلفا فتفاهما فوحدة إرادة فقوة فعالة، فالمجتمع الأمريكى مثلا له نظام ينخرط فيه اجتماع الصينيين والأفارقة والهنود والعرب ومختلف الأديان والأيديولوجيات، وقد يبرز خلل فتبدو الفروق والقبلية مع أول بادرة لاختلال فى النظام المجتمعى.
غالبا ما ينتمى الاجتماع إلى جماعة عرقية، وكلما تعاشرت جماعات على مر التاريخ كلما شكلت اجتماعا فيما بينها تحكمه أعراف وقواعد قد ترقى للنظم المجتمعية خاصة كلما كانت حضارتهم عريقة ممتدة فى الأزل، لذلك فالمجتمعات الأكثر قوة وترابطا تجدها الأكثر نقاء اجتماعيا أو الأعمق تاريخا وحضارة أو الاثنتين معا، انظر إلى دول شرق آسيا كاليابان وكوريا فى نقائهما الاجتماعى إلى حد كبير، وقد يدلنا التاريخ إلى حضارات عريقة أكثر انفتاحا لتنوع الوافد على الأصل مثل دول حوض البحر المتوسط خاصة مصر وإيطاليا واليونان، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه كما أن من شروط الأسرة نواة الاجتماع العيش فى منزل واحد، فإن الارتباط الجغرافى بين أعضاء الجماعة الاجتماعية شرطا، وقد يبدر على ذهن البعض أن الشعب الإسرائيلى مثال لنقاء اجتماعى، ولكنه مجتمع قائم على اجتماع جماعات أتت من الشتات، تفرقهم عرقيات وينخرطون جميعا فى نظام مجتمعى صارم، يخشى الانفراط ويتحسس ممن على غير الملة اليهودية.
***
من ذلك يتضح فرقا جوهريا بين الاستدامة الاجتماعية والاستدامة المجتمعية، فالاستدامة الاجتماعية تقوم على ترسيخ القيم الإنسانية بدءا من نواتها بتوطيد الترابط الأسرى حتى إعلاء القيم الوطنية، أما الاستدامة المجتمعية فأساسها النظام الذى يضبط العلاقات بين الناس وبعضهم وصولا للمستهدفات التى وضع النظام المجتمعى من أجلها، الاجتماع تقوى أواصره بالقيم والمجتمع تقوى لُحمَتَه بالنظام، فالقيم روافدها عديدة تأتى من العقائد والتراث والأعراف وغيرهم ومرجعها حكمة التشريع القانونى بما يتوافق وتلك القيم ومتطلبات الراهن، أما النظام المجتمعى فله أوجه تضبط العلاقات منها الاقتصادى والخدمى وغيرهما ومرجعه العدل والمساواة، وكلما كانت المساواة بمعناها التنموى كلما كانت أكثر استدامة، ففى المفهوم التنموى للمساواة أنها ليست ــ على سبيل المثال ــ طرح فرص العمل للكافة فيلتقطها البعض، وإنما تمكين الكافة من الوصول إلى فرص العمل فيفوز بها من يستحق، من هنا تلعب ثنائية العدل والمساواة دورها فى ضبط النظام المجتمعى.
***
وكعمرانيين بحثوا كثيرا عما قد يعبر عن وجهى الاستدامة الاجتماعية والمجتمعية، حتى تبين أن وحدة الجوار هى المعبر عن كلا الوجهين فى آن واحد، فالأسرة هى النواة الاجتماعية والجوار هو أول الروابط المجتمعية، ومن ثم كان مهما تأسيس بناء الأسرة وتخطيط مجاورات سكنية تحقق روابط مجتمعية سليمة وصحية، فقد اهتم علماء العمران بالإيعاز لمخططى المجاورات السكنية أن يتيحوا شوارع مشاة بالقدر الكافى أكثر من شوارع السيارات ويوزعون بين جنباتها المقاعد والمساحات الخضراء، ولكى تتاح مساحات لذلك فقد سمح بالتكثيف البنائى مع ثبات عدد السكان فترتفع العمارات ولكن تتسع الشوارع والفراغات، ولا تقل الكثافة عن 62 فردا على الفدان وإلا أصبح المجتمع مفككا، كما يفضل الاستخدامات المتنوعة لسد الحاجات فلا تقتصر المجاورة على السكن فقط وإنما يكون لها مركز تجارى وغيره ذلك، كذلك التأكيد على التنوع الاجتماعى فلا تقتصر المجاورة على فئة واحدة أو طبقة إسكانية واحدة وقد يسمح بذلك فى حدود لا تتعدى 50% من عدد سكان المجاورة، تلك كانت نصائح منظمة الموئل التابعة للأمم المتحدة كاستراتيجية لتخطيط المجاورة السكنية المستدامة.
هذه النصائح كانت من الصعب تحقيقها فى ظل توجهات اجتماعية ومجتمعية جامحة أحيانا ومتأثرة فى أحايين أخرى برياح اقتصادية وتحديات السوق وتوازناته، وأصبح حلم كل مخطط عمرانى تنموى يبحث عن استدامة مجتمعية تشمل اجتماعا صحيا أن يحقق وحدة جوار نموذجية تتماشى مع اقتصاديات واجتماعيات الناس، ولكن كان التحدى فيما تذهب إليه اقتصاديات قطاع الإسكان على حساب أسس التنمية العمرانية، حتى لجأ العمرانيون إلى رؤية مستحدثة أكثر عمومية من استهداف المجاورة السكنية وأيضا تلعب دورا مزدوجا مع القيم الاجتماعية وأطلق عليها مشروع «أنسنة المدن»، نعم أن تصبح المدن أكثر إنسانية، فالاتجاه نحو تطبيق نظم المدن الذكية والتكنولوجية مع التطور الاجتماعى والمجتمعى فى سلوكياته وعلاقاته فرض الاهتمام بنماذج استدامة الاجتماع والمجتمع ومنها جعل المدينة إنسانية، محاولة لعودة علاقات الأنس والتآلف فى محيط عمرانى يكرس لمجتمع مترابط وأكثر انسجاما وتفاهما فتسهل تشكيل إراداته وتوحيد أهدافه بدءا من القيمة الأسرية حتى القيم الوطنية، الاستدامة الاجتماعية والمجتمعية تؤكدها التنمية العمرانية التى لا يتوقف معناها عند إنشاء مساكن وإنما هى تضافر علوم اقتصادية واجتماعية وهندسية من أجل خلق عمران نابض بالحياة على أسس علمية تضمن استدامة الاجتماع والمجتمع.