«عندما يتحلى رئيس أمريكى بالشجاعة السياسية، ويخاطر بسخط إسرائيل عليه، عندها فقط يمكنه أن ينقذ إسرائيل من علتها المرضية الحالية. وإذا كان الرئيس أوباما جادا فى وعده بإنهاء الاحتلال الإسرائيلى الذى دام أكثر من 40 عاما، وتحقيق حل الدولتين، وضمان بقاء إسرائيل، والحفاظ على المصالح الأمريكية فى المنطقة، فعليه أن يخاطر بمواجهة مثل هذا السخط. وإذا حقق الرئيس الأمريكى وعده هذا فسينال امتنان إسرائيل إلى الأبد».
لم يصدر هذا القول عن ناشط فلسطينى، أو عن سياسى عربى، إنما صدر عن المدير السابق للمجلس اليهودى الأمريكى هنرى سيجمان فى مقال نشرته صحيفة النيويورك تايمز يوم 2 نوفمبر الحالى كما نشرته له أيضا صحيفة «الشروق».
قول يبعث على الاطمئنان بأن أصواتا يهودية عاقلة بدأت تجاهر بما كانت قد ضاقت به الصدور طوال العقود الماضية.
وإليك أيضا هذا التطور الجديد الذى يأتى بردا وسلاما علينا، وعذابا وجحيما على هؤلاء الذين تخندقوا دفاعا عن إسرائيل مهما اقترفته من ذنوب وآثام. نشأت أخيرا منظمة يهودية جديدة مقرها العاصمة الأمريكية واشنطن وأطلقت على نفسها اسم «J Street» طبعا «J» هو أول حرف لكلمة يهودى بالإنجليزية، ولكن اختيار الحرف لم يأت من أجل ذلك فقط إنما لأنه ليس هناك فى الواقع شارع يحمل هذا الاسم فى واشنطن. هناك شارع «I» وهو الحرف السابق لـ«J»، وشارع «K» وهو الحرف التالى لـ«J»..أراد القائمون على إنشاء هذه المنظمة أن يرمز الحرف «J» إلى الحلقة المفقودة أو الطريق الثالث بين تأييد إسرائيل وتأييد دعوى السلام ولذلك جاء شعارها «Pro-Israel، Pro-Peace movement».
تدعو المنظمة إلى الحفاظ على علاقات قوية بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، إنما تدعم فى نفس الوقت الجهود الأمريكية لتحقيق السلام الشامل فى المنطقة وتؤمن بحل الدولتين. لم يكن غريبا أن تحظى هذه المنظمة بتأييد الرئيس أوباما الذى أوفد مستشاره للأمن القومى الجنرال جيمس جونز ليكون المتحدث الرئيسى فى الحفل الذى أقامته المنظمة يوم 27 أكتوبر وضم أكثر من 1500 شخص من مختلف الطوائف اليهودية وغير اليهودية. كان من الطبيعى أن تصب منظمات مثل منظمة الإيباك AIPAC، وهى لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية، الوكيل المعتمد للوبى الإسرائيلى، جام غضبها على المنظمة الجديدة وتشكك فى نواياها وأهدافها، وامتنع سفير إسرائيل فى واشنطن عن حضور حفلها المذكور!
وهناك أمر مشجع آخر، حيث عقد لقاء جمع أكثر من 30 منظمة للعرب الأمريكيين من جانب واليهود الأمريكيين من الجانب الآخر يوم 25 أكتوبر. قام بتوجيه الدعوة إلى اللقاء رئيس المؤسسة العربية الأمريكية AAT جيمس زغبى اللبنانى الأصل والأكاديمى النشط، والمدير التنفيذى لمنظمة «J Street» جيرمى بن آمى الذى سبق له أن شغل منصب نائب مستشار الرئيس الأمريكى كلينتون للشئون الداخلية، من ناحية أخرى. ولم يتخلف البيت الأبيض هنا أيضا عن إبراز دعمه لمثل هذا التعاون بين الجاليتين العربية واليهودية، فأوفد إلى الاجتماع مديرة العلاقات العامة بالبيت الأبيض كريستينا تشن، حيث أشادت بهذا التعاون وطالبت الجاليتين بتقديم الدعم الضرورى للجهود التى يبذلها الرئيس أوباما والتى تستهدف التوصل إلى حل الدولتين. والرسالة هنا واضحة.. أوباما يحتاج إلى دعم الرأى العام الأمريكى فى مواجهة التحدى الإسرائيلى.
ـ ـ ـ ـ ـ
لا أريد أن أرسم صورة وردية أو أعطى انطباعا خاطئا بأن الأوضاع قد تغيرت لصالحنا بين يوم وليلة، لأن هذا لم يحدث. كل ما حدث هو ظهور نافذة ضيقة وسط الظلام الحالك، ربما تتسع إذا ما نحن أحسنا استغلال مثل هذه التطورات. هناك مخاض لولادة جديدة، إنما الطريق أمامنا طويل وشاق. الأسباب من وراء ذلك كثيرة، وأولها وضع الجالية اليهودية والنفوذ الذى تتمتع به. فعلى الرغم من أن تعداد اليهود لا يتجاوز الستة ملايين، فإنهم يمكنهم ترجيح الكفة فى صالح مرشح معين نظرا لوجودهم فى الولايات التى تتمتع بوزن تصويتى أكبر عن غيرها، علاوة على مشاركتهم فى الانتخابات تفوق نسبة مشاركة أى عرق آخر فى الولايات المتحدة.
الجالية اليهودية أصبحت بمرور الوقت وتوالى الهجرات جزءا لا يتجزأ من النسيج الأمريكى، ونحو نصف يهود أمريكا تجمعهم زيجات مع غير اليهود.
وكلنا نعلم مدى التغلغل اليهودى فى كل مناحى الحياة الأمريكية وتقلدهم كل الذى نشهده من مناصب حساسة. وتتمتع الجالية اليهودية بميزة إضافية وهى انخراطها وبقوة فى حركات الدفاع عن الحقوق المدنية مما يكسبها تقديرا خاصا وكلمة مسموعة.
أما من حيث التنظيم، فحدث ولا حرج. هناك الاتحاد اليهودى العام لأمريكا الشمالية إلى يضم 157 اتحادا من مختلف الولايات الأمريكية ومن كندا. تقوم هذا الاتحادات بالصرف بسخاء على مشاريع الرعاية الاجتماعية والثقافية والخيرية. وبالمناسبة، فإن هذا الاتحاد العام بالذات هو الذى حضر نتنياهو خصيصا للولايات المتحدة للتحدث أمامه يوم 9 نوفمبر الجارى وتحدث كلاما معسولا عن السلام والتعايش مع الفلسطينيين فى الوقت الذى يهدم فيه بتصرفاته فى الواقع، أى فرصة لقيام مثل هذا السلام. بعد إلحاح شديد من جانب نتنياهو قبل أوباما أن يتلقى به فى وقت متأخر وتحت جنح الظلام. ولم يصدر عن الاجتماع إلا أوصاف لا تغنى ولا تسمن من جوع مثل القول بأن الاجتماع كان مفيدا وتناول العديد من الموضوعات. وإلى جانب هذا الاتحاد العام فهناك مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الكبرى الذى يضم 51 من كبريات المنظمات، وهناك منظمة بناى بريث التى يمتد نشاطها إلى 50 دولة.
ولا يجب إغفال أهمية منظمة مناهضة التشهير Anti-defamation league. ولا ننسى أيضا الدور الذى تلعبه المؤسسات البحثية التى تتبنى المواقف الإسرائيلية فى أغلب الأوقات مثل American Enterprise Institute وHeritage Foundation وغيرها.
غير أن أبعد المنظمات أثرا فى تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل هى الإيباك. هذه المنظمة مسجلة بطريقة شرعية وفقا لقانون تسجيل العملاء الأجانب، وتركز نشاطها على الكونجرس وأجهزة الإعلام، وتدعو إلى دعم المرشحين المتعاطفين مع إسرائيل، غير أنها لا تستطيع أن تقدم التبرعات مباشرة لهم باعتبار أنها تعمل لحساب دول أجنبية. فقط تدعو الغير إلى التبرع بسخاء لأنصارها وتحجب ذلك عمن سواهم مما يؤدى إلى فشلهم فى الانتخابات أو فى إعادتها. والأمثلة كثيرة، منها بول فندلى ووليام فولبرايت وتشارلز بيرسى وغيرهم.
إذن فنحن كعرب أمام خصم قوى وعنيد، أو أخطبوط تمتد أذرعه إلى جميع مناحى الحياة الأمريكية. لن تستطيع الجاليات العربية أو منظماتها فى أمريكا أن تقف فى وجه هؤلاء لأنها لا تتمتع بمثل هذا التنظيم أو الانتشار أو التغلغل داخل المجتمع الأمريكى. تمكن اللوبى الإسرائيلى أو «الإيباك» من الحصول على تأييد 344 عضوا من أعضاء مجلس النواب على مشروع يدعو الإدارة الأمريكية إلى إحباط محاولة تناول تقرير جولدستون فى الأمم المتحدة. وأكاد أجزم أن الغالبية العظمى من هؤلاء النواب لم يكلف نفسه عناء الإطلاع على التقرير أو حتى على موجز له. الإيباك تتولى ذلك عنهم باقتدار، وتمطرهم يوميا بكل ما يجمّل من صورة إسرائيل ويشوه من صورة العرب. أى نقد وتعليق قد يرد فى أى صحيفة مغمورة فى العالم العربى يرسل فورا إلى عضو البرلمان مشفوعا بما يستحقه من هجوم وتنديد.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فإذا كان الأمر كذلك، فهل لدينا أى فرصة لإحداث تغيير فى الموقف الأمريكى من إسرائيل أو الكشف عن صورة إسرائيل الحقيقية؟. الإجابة عن ذلك بنعم. أشرت فى بداية المقال إلى ظواهر جديدة شهدها المجتمع الأمريكى والتى يمكن أن تكون مقدمة لما هو أكبر وأقوى أثرا.
يتعرض أوباما بالطبع لمقاومة عنيدة من إسرائيل وأعوانها، إنما سيبقى هو الرئيس وصاحب الكلمة النهائية. ليس من الحكمة أن ندخل فى صدام مباشر مع القوى اليهودية أو اللوبى الإسرائيلى، لأن الفوز فى مثل هذه الحالة لن يكون حليفنا. فالكفة تميل بقوة لمصالحهم. ما نستطيع فعله وبنجاح مضمون هو استغلال اهتزاز صورة إسرائيل الحالية أمام العالم أجمع، خاصة بعد ممارساتها الوحشية فى غزة وغير غزة.
أفقدها الكثير من جاذبيتها وتزعزعت مصداقيتها. أعتقد أن الأيام قد ولت عندما كانت تتشدق إسرائيل بقيمها ومثالياتها. لم يعد هذا الخداع ليقنع أحدا. علينا أن ندفع بتقرير جولدستون إلى نهاية المطاف سواء بإحالة مجرمى الحرب الإسرائيليين إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو تشكيل محكمة جنائية خاصة. علينا أيضا أن نضع أيدينا فى أيدى هؤلاء الذين أقاموا الدعوات ضد مجرمى الحرب الإسرائيليين فى الدول التى تأخذ بمبدأ الولاية القانونية الدولية الشاملة وهى دول كثيرة فى واقع الأمر.
أصبح الإسرائيليون مطاردين الآن أينما حلوا.. هذا نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية موشى يألون يتجنب السفر إلى لندن لأنه سيحاكم هناك على جرائم ارتكبها عام 2002 فى غزة عندما كان رئيسا لأركان حرب الجيش الإسرائيلى. وها هو وزير الدفاع باراك يفلت بأعجوبة من المحاكمة فى بريطانيا مستجيرا بالحصانة الدبلوماسية. أما نائب وزير الخارجية الإسرائيلية دنيال ألون فقد تظاهر ضده طلبة الجامعة البريطانية العريقة London School of Economics يوم 27 أكتوبر الماضى وقاطعوه أثناء إلقائه محاضرته بهتافات تنعته بالعنصرية والإجرام. وتظاهر طلبة جامعة نوتنجهام البريطانية يوم 5 نوفمبر الجارى ضد زيارة السفير الإسرائيلى للجامعة وأصدروا ما أطلقوا عليه بأمر اعتقال شعبى!
لسنا وحدنا على الساحة فى مواجهة الممارسات الإسرائيلية. وسبق لى فى مقال نشرته «الشروق» فى 10 أكتوبر أن أشرت إلى طلبة الجامعات فى العديد من الدول الأوروبية والأمريكية الذين يدعون إلى اتخاذ نفس الإجراءات التى اتخذت ضد جنوب أفريقيا وأدت فى نهاية الأمر إلى سقوط نظام التفرقة العنصرية. وينادى هؤلاء بنفس الأمر وبفرض العزلة الدولية عليها بمقاطعة منتجاتها القادمة من المستوطنات، وعدم شراء أسهم وسندات الشركات التى يرتبط نشاطها بنشاط إسرائيلى غير قانونى فى الأرض المحتلة، وكذلك فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية على إسرائيلى.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
علينا كعرب إذن أن نبذل كل جهد ممكن لتضييق الخناق على إسرائيل من خلال الاتصالات ومخاطبة أجهزة الإعلام وطلبة الجامعات والمعاهد فى مختلف أنحاء الولايات المتحدة والدول الأوروبية.. علينا أن نواصل فضح الممارسات الإسرائيلية وإسقاط الأقنعة الزائفة من على وجهها. نحمد الله على أن إسرائيل، بقصر نظر تحسد عليه، وبمنطق معوج لم يعد يقتنع به أحد، تيسر فى الواقع من مهمتنا هذه. لقد سقط النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا إلى غير رجعة بعد أن نبذه العالم بأكمله، «والسعيد من وعظ بغيره، أما الشقى فهو من وعظ بنفسه».