معضلة غريبة تجمع بين صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية وعائلة الحكم السعودى، عائلة الملك سلمان خاصة ولديه ولى العهد محمد والسفير خالد بواشنطن.
فقبل أسابيع احتفت دوائر الحكم السعودية بصحيفة نيويورك تايمز على خلفية نشر كاتبها توماس فريدمان مقالا طويلا يلقى فيه بالثناء على ولى العهد محمد بن سلمان، وعلى خططه الطموحة للتغير الداخلى الاقتصادى والهيكلى فى المجتمع السعودى إلا أنها ما لبثت وفتحت النار على الصحيفة مدعية أن «محمد بن سلمان يمثل عقدة للصحيفة».
إلا أن المتابعة المحايدة لتطور التغطية الصحفية لأخبار السعودية وولى عهدها على صفحات نيويورك تايمز لا تترك مجالا للشك فى عدم معرفة حكام السعودية بمعنى حريات الإعلام، ودور الصحافة فى المجتمعات الحرة. وكيف أن الصحافة لا تتبع بيوت الحكم ومراكز صنع القرار ولا تعرض على صفحاتها ما تريده من أخبار تمتدح فى سياسات هذا الحاكم أو ذاك، أو أن تتجاهل أفعال ومصائب حكام آخرين.
غطت نيويورك تايمز أربعة موضوعات شديدة الحساسية للعائلة السعودية الحاكمة خلال الأشهر الأخيرة، موضوعات أربعة لا تكاد تقترب منها الصحافة السعودية، ولا العربية إلا باستثناءات قليلة. أول هذه الموضوعات كان فى يونيو الماضى وارتبط بولى العهد السابق محمد بن نايف. فقد خرجت الصحيفة بسبق جاء فيه أن بن نايف يخضع للإقامة الجبرية فى قصره بجدة وممنوع من السفر، وممنوع من الظهور إعلاميا أو اجتماعيا، وذلك بعد إعفائه من منصب ولى العهد وإسناد المنصب إلى الأمير محمد بن سلمان نجل العاهل السعودى الملك سلمان. وجاء سبق نيويورك تايمز استنادا إلى تصريحات أربعة مسئولين أمريكيين وسعوديين حاليين وسابقين مقربين من العائلة السعودية. وذكر مسئول أمريكى للصحيفة أن بن نايف بعدما عاد إلى قصره فى مدينة جدة وجد أن حراسه الذين يثق بهم استبدلوا بحراس موالين لـبن سلمان. ومنذ ذلك الحين لم يغادر الأمير المعفى من ولاية العهد قصره. وذكرت نيويورك تايمز أن هذه الإجراءات وتقييد حركة بن نايف تعد مؤشرات على أن محمد بن سلمان لا يريد أى معارضة من أى نوع. وأثبتت تطورات الأحداث فى السعودية صحة تقرير التايمز.
وثانى هذه الموضوعات جاء قبل عام عندما انفردت الصحيفة بخبر شراء محمد بن سلمان يختا بمبلغ 550 مليون دولار على الرغم من دعواته لتبنى سياسات تقشف من أجل تحقيق رؤية 2030 التى يتبناها بن سلمان. وذكرت الصحيفة عن شريك صاحب اليخت أن الصفقة تمت خلال إجازة بن سلمان فى جنوب فرنسا، والتى لم تستغرق سوى ساعات أخلى بعدها البائع اليخت فى نفس اليوم، وذلك بعدما فتن اليخت الأمير.
***
ثالث الأخبار التى أزعجت ولى العهد السعودى ارتبطت بشرائه لوحة للرسام الإيطالى ليوناردو دافنشى بقيمة 450 مليون دولار. قالت الصحيفة إن مصادر فى أجهزة الاستخبارات الأمريكية أكدت أن بن سلمان هو الذى اشترى اللوحة. وأشارت التايمز أن الأمير السعودى، بدر بن عبدالله بن محمد بن فرحان آل سعود، هو الذى اشترى اللوحة بالنيابة عن بن سلمان. وذكرت الصحيفة كذلك أن امتلاك أمير سعودى لهذه اللوحة مثير للجدل بين المتدينين فى السعودية، خاصة أن موضوع اللوحة من وحى الإنجيل، وهى تصور المسيح، وفى إطار التحريم القاطع فى الإسلام لتصوير الأنبياء والرسل.
رابع هذه الأخبار جاء الأسبوع الماضى عندما كشفت نيويورك تايمز هوية مشترى القصر المعروف باسم قصر لويس الرابع عشر فى فرنسا بمبلغ 300 مليون دولار قبل عامين. وقالت الصحيفة إن المشترى هو الأمير محمد بن سلمان الذى يتبنى سياسة تقشف صارمة فى بلاده. وطبقا للتايمز، فقد بيع القصر الفخم فى سبتمبر 2015، ويحاكى قصر بن سلمان قصر فرساى القريب منه، وجاء خليطا من الطراز المعمارى فى القرن السابع عشر والتكنولوجيا الحديثة ومما يحوى نوافير يمكن التحكم فيها من هاتف وقاعة سينما وحوض أسماك عملاق، ومساحة الأماكن المخصصة للسكن فى القصر خمسة آلاف متر.
جاءت هذه الأخبار على مجملها فى وسط ما يقوم به محمد بن سلمان من حملات اعتقال لأمراء فى الأسرة الحاكمة، ومسئولين حاليين وسابقين، إضافة إلى نشطاء سياسيين بحجة «مكافحة الفساد» و«الدعوة للتقشف».
إضافة لهذه الموضوعات الأربعة المحرجة، لا تتوقف الصحيفة عن التنديد بما تقوم به السعودية فى اليمن وهو ما أسفر عن سقوط مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء من المدنيين، انتشار الكوليرا وغيرها من الأمراض التى لم يعد يعرفها العالم المعاصر.
***
تاريخ الصحيفة الأمريكية عريق، أسست نيويورك تايمز عام 1851 أى قبل تأسيس المملكة السعودية بـ 81 عاما، إذ تأسست السعودية عام 1932. وبسبب مهنيتها وأدائها الجيد تبوأت الصحيفة مكانة مرموقة داخل الولايات المتحدة، وأصبحت الأكثر تأثيرا ووصولا للنخبة الأمريكية ودوائر صنع القرار. وهو ما جعلها كذلك من أكثر الصحف تأثيرا فى العالم. وخلال الأيام القليلة الماضية فتحت السفارة السعودية النار على الصحيفة بسبب ما تراه ترصدا مقصودا بتشويه صورة محمد بن سلمان. ونشر مستشار للسفارة تغريدة رسمية قال فيها: «تحولت النيويورك تايمز إلى صحيفة لا هم لها سوى متابعة أخبار شخص سمو ولى العهد، وكأن الموضوع نابع من أجندة شخصية للصحيفة، لا يتواصلون معنا إلا إذا كان لخبر عن سموه، أما حين نعلن عن خبر أو تطور تشهده المملكة ينزوون دون أى صوت أو تعليق». وأضاف أيضا، «أخيرا طلب سمو السفير نشر مقال رأى فى الصحيفة فكان ردها الاعتذار بحجة أن مقال توماس فيردمان كان إيجابى جدا ولذلك لا حاجة لصوت سعودى رسمى على صفحاتهم، بالنص «ألم يكفيكم مقال فريدمان؟»، طبعا بعدها بأسبوع نشرت مقال لجواد ظريف». «واضح أن النيويورك تايمز عندهم عقدة اسمها محمد بن سلمان».
نعم تقع بعض الأخطاء من صحيفة نيويورك تايمز، إلا أن هذا لا ينطبق على تغطيتها للسعودية. وقد لا تعرف سفارة المملكة فى واشنطن قواعد وشروط النشر على صفحات الرأى فى الجريدة (نشرت شخصيا على صفحاتها فى الماضى). تتلقى الصحيفة يوميا ما يزيد عن 300 مقالا من ساسة ونقاد ومواطنين وخبراء بغرض النشر على صفحاتها، ولا تعير الصحيفة اهتماما إلا لنسبة ضئيلة جدا منها. ويجب أن تكون هناك فكرة جيدة يمكن طرحها للنقاش العام، أو عرض لوجهة نظر سياسية لا تلق نصيبها من التغطية الخبرية، ويبدو أن السفير السعودى بواشنطن لم يكن لديه إلا المديح والثناء على جهود أخيه الأكبر، وهذا بالطبع ترفضه الصحيفة خاصة بعد نشرها ما وصفه البعض بأنه فضيحة تمثلت فى مقال توماس فريدمان الذى جاء بمثابة قصيدة حب فى ولى العهد السعودى.