الحدث الأبرز المرافق لدخول الثورة اليمنية عامها الثالث هو الإعلان عن تشكيل مؤتمر «الحوار الوطنى» من 565 عضوا يفترض أن تبدأ جلساته منتصف الشهر المقبل. تولت التحضير لجنة برئاسة عبد الكريم الأريانى، القيادى المخضرم فى «المؤتمر الشعبى» الذى يرأسه على عبدالله صالح ويشارك السفير الأمريكى فى اجتماعاتها. لم تتقدم أحزاب عدة بعد بلوائح مندوبيها إلى المؤتمر ومن قدّم لم يتقيّد بالنسب المعتمدة: 50 % لتمثيل المحافظات الجنوبية، 30 % لتمثيل النساء و20 % لتمثيل الشباب (وحده الحزب الاشتراكى اليمنى التزم بهذه النسب).
●●●
كان من المفترض أن يبدأ المؤتمر أعماله قبل نهاية 2012. عُزى التأجيل إلى الوضع الأمنى خصوصا العمليات ضد «تنظيم القاعدة» فى المحافظات الجنوبية ــــ وإلى عدم استكمال هيكلة القوات المسلحة. أدى الترحيل إلى تفاقم الاحتقان لدى كل المكوّنات المعنية بالثورة وأبرزها «الحراك الجنوبى» الذى أطلق يوم 13 يناير الماضى تظاهرة مليونية تؤكد إلحاح معالجة المسألة الجنوبية والتفاف جماهير واسعة من الجنوبيين حول الدعوات إلى الانفصال دون أن تنجح قوى «الحراك» مع ذلك فى الالتقاء على حل مشترك للمسألة الجنوبية أو قيادة مشتركة.
سوف يباشر مؤتمر الحوار الوطنى أعماله مع أن عملية هيكلة قواته المسلحة لم تستكمل بعد. فرغم إقالة عدد من القيادات العسكرية والأمنية، من أبناء على عبد الله صالح وأقربائه، لا يزال الحرس الجمهورى (الأكبر من الجيش نفسه) والأمن المركزى والقوات الخاصة تحت نفوذ الرئيس المخلوع. إلى هذا تضاف عقبة أخرى هى التنافس على النفوذ فى القوات المسلحة، وفى السلطة، بين رئيس الدولة عبد ربه منصور هادى وعلى محسن الأحمر، قائد اللواء أول مدرّع، الذى انحاز إلى الثورة فى ربع الساعة الأخير.
عيّن موعد بدء جلسات المؤتمر فى 18 مارس المقبل، فى ذكرى مجزرة «جمعة الكرامة» التى نفذها قناصة على عبد الله صالح بمعتصمين يطالبون برحيله فى «ساحة التغيير» بصنعاء وذهب ضحيتها خمسون شابا. لن يغطى هذا التنازل الرمزى على حقيقة أنه لم يعتقل ولم يحاكم أحد من مرتكبى المجزرة المعروفين، ولا على عدم إطلاق سراح المعتقلين من شباب الثورة، مع أن «المبادرة الخليجية» تقضى بأن يخلى الشباب الساحات. حفز هذا دورة جديدة من الحراك الشبابى بتنظيم احتجاجات واعتصامات تطالب بإنهاء عسكرة الجامعة وإخراج القوات المسلحة من المدن ورفع الحصانة عن الرئيس المخلوع وبطانته وتقديمه للمحاكمة واستكمال هيكلة الجيش وتوحيده وخضوعه للسلطات الشرعية. وتدعو تنظيمات شباب الثورة إلى مقاطعة أعمال «مؤتمر الحوار» إن لم تتحقق تلك المطالب.
●●●
حرصت الأمم المتحدة، إذ دعت للمؤتمر ودعمته، على تسمية على عبد الله صالح ونائبه السابق على البيض، مسئولين عن عرقلة مساعى الحوار الثانى بسبب رفضه المشاركة فى الحوار، والأول لعدم مغادرته صنعاء، ويبدو أنه رضخ أخيرا بإعلانه أنه سوف يغادر خلال انعقاد المؤتمر بحجة العلاج.
على جدول أعمال المؤتمر ثلاثة بنود رئيسية هى صياغة الدستور، والبحث فى هيكلة الدولة، والقضية الجنوبية. المتوقع أن تثير صياغة الدستور الأسئلة الحيوية ذاتها، المثارة فى جميع الدساتير قيد الصياغة فى المراحل الانتقالية العربية الأخرى عن طبيعة النظام جمهورى أم برلمانى أم مختلط؟ وموقع الشريعة من الدستور. على أنه يمكن إجمال هذا البند مع البندين الثانى والثالث، ما يثير مسألة إعادة تركيب الدولة اليمنية بكيانها والمؤسسات بعد أن أدى الحكم الفردى الاستبدادى والمركزية الحصرية لصنعاء إلى ما أديا إليه من حروب ومشكلات وما استثاراه من ردود أفعال جهوية. فى الوقت الضائع، أخذ «أنصار الله» من الحركة الحوثية، يتمددون نحو صنعاء وباتوا يملكون جيشا صغيرا ذا سلاح متطور فى صعدة. على أن الاستعصاء الأكبر يتعلق بالمسألة الجنوبية حيث إن معظم القوى الشمالية الرئيسية لا تزال تتمسك بالهيمنة على الجنوب تحت ادعاء الحفاظ على الوحدة. فى المقابل، تتنافس ثلاثة مقترحات: المقترح الأول يدعو إلى استعادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التى كانت قائمة إلى عام 1990. ويقول المقترح الثانى بحل فيدرالى بين الشمال والجنوب، يطرح على استفتاء شعبى لتقرير المصير بعد سنتين من اختباره. ويقول ثالث اقتراح بإعادة الهيكلة على أساس فيدرالى فى أقاليم عدة لكل اليمن بحيث تشرك صعدة وتعز فى الحل، والأخيرة إحدى أغنى مناطق اليمن وأكثرها تطورا وأبعدها عن المشاركة فى القرار السياسى. وجدير بالذكر أن دعاة الحلين الأول والثانى من قادة جمهورية اليمن الديمقراطية سابقا يعلنون مقاطعة أعمال المؤتمر ما يضع علامات استفهام على مدى قدرته على الإقلاع أصلا.
●●●
«فى اليمن لا توجد ثورة. توجد حركة تغيير»، هكذا لخص رئيس الدولة عبد ربه منصور هادى الوضع فى بلاده فى الذكرى الثانية للثورة. أين التغيير؟ لم تخطئ «الواشنطن بوست» إذ لاحظت أن يمن «المبادرة الخليجية» لا يزال تحت سيطرة الأسر التى كانت حاكمة فى عهد على عبدالله صالح. فات اليومية الأمريكية أن تضيف أن أسر المجمّع السياسى العسكرى القبلى تسيطر أيضا على الاقتصاد والثروة النفطية.
أما عن الثورة، فتقدّم اليمن نموذجا لتعاطى الردة الأمريكية الخليجية مع الثورات العربية: الدعوة لتنحى الرئيس لنائبه، تشكيل حكومة ائتلافية تقوم على مناصفة فى الشكل، وهى مختلة فى المضمون، إضافة إلى أنها فاقدة للصلاحيات، باعتراف رئيسها محمد سالم باسندوه فى حديث تليفزيونى أخير. وفى الآن ذاته، الميل نحو «حزب الإصلاح اليمنى» بما هو الطرف الإسلاموى الوسطى، رغم وجود جناح جهادى فاعل فيه بقيادة الشيخ عبد المجيد الزندانى، والحفاظ على القاعدة العسكرية للنظام السياسى، بالحجة إياها الحرب العالمية ضد تنظيم «القاعدة»، وأخيرا وليس آخرا تسريح قوى الثورة الحية، أى مستقبل اليمن، وإخراجها من دوائر الفعل والتأثير.. إلخ.
●●●
بقى التذكير بأن الوصاية الأمريكية السافرة والهيمنة المالية والسياسية والطائفية للعربية السعودية، تشجعان الأطراف المتضررة فى الحركة الحوثية والحراك الجنوبى خصوصا على استدراج التدخل الإيرانى وقد تكشّف فى الأسابيع الأخيرة، أن هذا التدخل يشتمل على تهريب السلاح أيضا.
يبدو أن ما من أحد يتعلّم من أخطاء سواه بالنسبة لمآسى الاستقواء بالخارج على الخصم، فهل تعتبر المعارضة السورية مما تحمله التجربة اليمنية من عِبَر ودروس؟