السخرية فى مفهومها البلاغى هى طريقة فى الكلام يعبر بها الشخص عن عكس ما يقصده بالفعل، كقولك للبخيل «ما أكرمك». والذى نقصده بالسخرية هنا هو لون من ألوان الهجاء ظهر فى الشعر العربى بداية من العصر العباسى، ولم يكن يتجاوز هذا اللون ــ كما يقول عز الدين إسماعيل ــ حد السخرية من المهجو وإثارة الضحك منه.
وقد لاحظ أحمد عطية الله فى كتابه سيكولوجية الضحك «1947» أن الهجاء فى مجمله يشبه التصوير الكاريكاتيرى، فالهجاء يمسخ وصف الرجل بإبراز بعض عيوبه للعيون، بحيث تخفى العيوب ما فيه من محاسن لشدة مبالغة الهجاء فى تصوير هذه النقائص.
أما برجسون فى كتابه «الضحك» فيرى أن الشاعر هو أكثر الأشخاص قدرة على أن يتحول إلى مُنَكِّت، لأن التنكيت بمعناه الواسع نوع من الأسلوب المسرحى فى التفكير. فبدلا من أن يستخدم المنكت أفكاره بوصفها رموزا مجردة، فإنه يراها، ويسميها، ويجعلها على وجه الخصوص، تتحاور فيما بينها كأنها أشخاص، إنه يدخلها فى مشهد، ثم يدخل نفسه بعض الشىء أيضا. فإذا أحل الشاعر الرباط الذى يجعل أفكاره دائمة الاتصال بعواطفه، وجعل نفسه دائمة الاتصال بالحياة، فإنه سيتحول إلى مُنَكِّت عظيم.
إن تحليل برجسون السابق يكشف لنا ما كنا نظنه تناقضا فى عبقرية بيرم التونسى الذى تألق فى زجله الناقد للحياة، وأبدع فى قصائده الشعرية، وإن كان بيرم قد تحول فى الشق الأول من إبداعه من هجاء شخص إلى نقد مجتمع، وهو اتجاه قد التفت إليه أيضا فى ندرة بالغة بعض الشعراء العرب القدماء المهمشين الذين عانوا فأبدعوا، بعيدا عن إطار انتظار عطية المديح، أو الابتزاز بسيوف الهجاء، ومنه قول أحدهم الوارد فى كتاب أدب المعدمين لسالم الدباغ:
إنى لاستحى لربى أن أُرى أجرجر حبلا ليس فيه بعيـــرُ
وأن أسأل العبد اللئيم بعيره وبعران ربى فى البلاد كثيرُ
حيث تبهرنا صورة ذلك البدوى عزيز النفس الذى يسير شامخا فى هجير الصحراء وهو يجرجر حبلا خاليا، وهى تستدعى بدورها فى ذاكرتى قول تومبسن إن المفارقة لا تكون مفارقة إلا عند ما يكون أثرها مزيجا من الألم والتسلية.
وبالعودة إلى تيار الشعر الهجائى الساخر الذى برز فى العصر العباسى، فسنجد أنه قد جذب نخبة من كبار شعراء العصر، فها هو ابن الرومى يقول:
يقتـر عيسى على نفســــه وليس بباقٍ ولا خالـــــدِ
ولو كان يستطيع - من بخله - تنفس من منخرٍ واحــدِ
إن ابن الرومى قد صرح بمذمة البخل لفظا مرتين، كما قدم فى البيت الأول مفارقة شارحة تتمثل فى حرص المهجو على ماله مقابل حرمانه المؤكد منه بعد موته، لكن كل هذا الإيضاح لم يمنع المتلقى من الدهشة الفنية الحقيقية المصحوبة بضحكة ساخرة وهو يتخيل صورة هذا الشخص الذى يجاهد كى يسد طاقة من أنفه ويترك الأخرى فقط مفتوحة من باب التوفير.
أما أبو نواس فقد كان أبرع شعراء عصره وأكثرهم كتابة فى هذا اللون من الهجاء الساخر، فهو يقول مثلا:
رأيت الفضل مبتسمـــا يناغى الخبز والسمكا
فقطب حين أبصرنــى ونكس رأسه وبكـــى
فلما أن حلفت لــــــــه بأنى صائم ضحكــــــا
فعلى الرغم من أن أبا نواس يهجو شخصا بخيلا هجاء ساخرا كما فعل ابن الرومى فى البيتين السابقين، فإنه قد صار فى اتجاه مغاير تماما. فهو لم يصرح قط بمذمة البخل، لكنه قد رسم مشهدا مسرحيا كاملا، بطله يبتسم فى بدايته وهو يناغى الطعام كأنه طفله المدلل، ثم يتحول التعبير الدرامى على وجهه إلى التقطيب فتنكيس الرأس فالبكاء فور مشاهدته لشخص قادمٍ نحوه قد يشاركه الطعام، وقد أدرك هذا الشخص المأساة غير المقصودة التى أحدثها ظهوره المفجع فى هذه اللحظة الدرامية الحاسمة، فتوجه مباشرة إلى القسم، و تذكيره بحرمانية الطعام على الصائم، ليؤكد له بمواثيق السماء استحالة التفكير فى مشاركته هذه الوليمة، فعاد وجه البطل ليبتسم مرة أخرى فى ختام المشهد ابتسامه مكللة بعار البخل.
ويمكننا أن نلمح لدى أبى نواس أيضا تصويرا هجائيا ساخرا آخر للبخل، يستخدم فيه تقنية أخرى من تقنيات المشهد المسرحى وهى تقنية الحوار التى نادرا ما تصادفنا على هذا النحو الموسع فى الشعر العربى القديم، حيث يقول:
قال لى سليمان يوما وبعض القول أشنــع
قال صفنى وعليا أيُّنــا أتقـــــى وأورع
قلت أخشى إن أقـل ما فيكما بالحق تجـزع
قال كلا، قلت مهلا قال قل لى، قلت فاسمع
قال صفه، قلت يعطى قال صفنى، قلت تمنع
إن غرض الهجاء قد تحقق فى النماذج السابقة كافة على تنوعها بواسطة السخرية المضحكة، فالمجتمع كما يقول برجسون إن لم يهدد الفرد بالعقاب تهديدا فإنه يلوح له بالمهانة، وهى على هونها مرهوبة، فالضحك يخزى ضحيته قليلا، وهو لهذا ضرب حقيقى من اللجام الاجتماعى.