بشىء من الحيرة لخص دبلوماسى أوروبى شاب، يتابع عن قرب بحكم عمله التفاعلات ومجريات حوادثها، الموقف العام لدول الاتحاد الأوروبى: «نريد أن نساعد مصر لكننا لا نعرف كيف؟».
فى حيرة السؤال تتقاطع المسارات والسياسات بصورة مربكة تستعصى على المعادلات السهلة.
هناك توافق شبه جماعى على أن استقرار مصر من ضرورات استقرار أوروبا وأن تصدع دولتها يفضى إلى تغول الإرهاب فى قلب عواصمها.
التجربة الأوروبية مريرة فى الحرب مع الإرهاب وتنظيماته التى تمركزت وروعت كما لم يحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بمعنى آخر فإن مساعدة مصر على اكتساب المنعة وصون استقرارها مسألة تتعلق مباشرة بالأمن الأوروبى.
هذه حقيقة يصعب دحضها أيا كانت حدة بعض الانتقادات الأوروبية.
نقطة الخلاف الرئيسية بين دولة أوروبية وأخرى تعريف «الاستقرار» وأين الأولوية بالضبط؟
لا أحد يراهن الآن على تقويض الاستقرار المصرى، فالنتائج سوف تكون وخيمة على الجانب الآخر من المتوسط.
الاستغراق فى «نظريات المؤامرة» قد يعمى الأنظار عن الحقائق الماثلة.
بقوة المصالح الاستراتيجية والأمنية تكتسب الرهانات الأوروبية زخمها.
غير أن ذلك الزخم تعترضه حواجز لا يستهان بها وعبورها غير ممكن دون تحسين فى سجل حقوق الإنسان والحريات العامة.
بكل الأحوال يصعب الادعاء أن هناك خطة أوروبية موحدة فى النظر إلى العلاقات مع مصر.
هناك مساران على شىء من التناقض.
أحدهما، يمد يد التعاون الاستراتيجى والاقتصادى مع مصر إلى حدود غير مسبوقة على ما تبدى فى زيارة الرئيس الفرنسى «فرانسوا أولاند».
هذا المسار يرتب أولوياته على نحو يغلب ما هو استراتيجى على ما هو حقوقى ويميل إلى ما يطلق عليه «النقد الحنون» أو «نصح الأصدقاء» لتحسين السجل الحقوقى دون ميل للصدام.
فرنسا تندفع بمخاوفها من تمركز «التنظيمات الإرهابية» فى بنيتها الاجتماعية إلى رهان على دور مصرى ما فى معادلات الإقليم الذى تورد أزماته موجات عنف إلى عاصمتها.
مشكلة «أولاند» أن قاعدة دعمه فى بلاده مشكوك فيها ويحتاج من وقت لآخر إلى تبريرات تسوغ خياراته بينما حاجته ماسة إلى صلات قوية مع أكبر دولة عربية.
إيطاليا لها رهانات مماثلة اقتصادية وإستراتيجية، وللملف الليبى الملغم دور جوهرى فى الحسابات المشتركة، غير أن ملف مقتل الباحث الشاب «جوليو ريجينى» ألقى بظلاله الكثيفة على المستقبل المنظور.
كان الأداء كارثيا وغير مقنع فى إدارة هذا الملف بما نقل إيطاليا إلى المسار الآخر الذى يضغط بسجل حقوق الإنسان والحريات العامة بصورة لا تخلو من تصعيد.
على خلفية قضية «التمويلات الأجنبية» تضامن ممثلون لسفارات أوروبية وتحادث بالقاهرة وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» وأصدر الأمين العام للأمم المتحدة «بان كى مون» بيانا اعتبرته الخارجية المصرية تدخلا فى شأن قضائى.
الكلام كله معتاد، فالانتقادات الغربية تتواتر بدرجات مختلفة من الحدة والبيانات المصرية تتواصل بذات اللغة دون مراجعة للأخطاء الفادحة التى استدعت تحطيم الصورة.
بالنسبة للأوروبيين فلا شىء جديد فى متابعة مثل هذه القضايا وإبداء القلق بخصوصها.
رغم التباينات فى لغة الخطاب الأوروبى إلا أنها تجمع على موقف شبه موحد عندما يتعلق الأمر بمسألة ما لها صلة بالحريات العامة.
ألمانيا مشدودة إلى لعبة المصالح الاقتصادية على النمط الفرنسى لكن لغتها السياسية بشأن السجل الحقوقى على شىء أكبر من الحدة.
بريطانيا لغتها أكثر صرامة ومصالحها أكثر حضورا حيث تتمتع بصفة الدولة الأوروبية الأكثر تبادلا تجاريا مع مصر.
النمسا وهولندا والدول الاسكندنافية أميل إلى الضجر المعلن من ملف الانتهاكات الحقوقية دون أدنى استعداد مصرى لتفهم الدواعى والعمل على تصحيح الصورة المهشمة بالإجراءات الملموسة قبل الدعايات المرسلة.
ما يسند أية سياسة مستوى صدقيتها.
لا أحد فى العالم مستعد أن يتقبل تقييد المجتمع المدنى، فهو من حقائقه التى لا سبيل لإنكارها.
بعض الكلام يصعب تقبله بأية معايير حديثة مستقرة وبعض الدفاع وثائق اتهام إضافية.
ما نحتاجه أن تكون هناك قواعد قانونية لها هيبتها واحترامها توفر للمجتمع المدنى حقه فى الحركة وتضمن للدولة رقابتها على أية تجاوزات مالية.
لا يصح لأحد أن يغض الطرف عن أى فساد محتمل فى أعمال بعض المنظمات، والحساب ضرورى.
الحساب غير الانتقام والمساءلة غير التشهير.
غياب القواعد يفضى إلى إجراءات غير مقنعة وتراجعات غير كريمة.
قوة الدولة من صلابة قواعدها القانونية.
عندما يكون الحساب على الهوى فإن التراجع يكون بالضغوط.
بقدر تماسك المجتمع على خيارات تجمعه وقواعد لعبة تضمن توافقاته فإنه يحوز نسبة أعلى فى منسوب «استقلال القرار الوطنى».
عالمية حقوق الإنسان تنفى بصورة كاملة أية إدعاءات بالسيادة لتبرير الانتهاكات.
هذا عالم انتهى تماما ولا سبيل إلى عودته.
غياب أية خطة إصلاحية لأجهزة الدولة يسحب منها أية قدرة على التصدى لعواصف الحوادث أو أى ثقل معنوى فى عالمها.
سوء سمعتها فى مجتمعها وعالمها مؤشر خطر لا ينبغى تجاهله أو الإدعاء بعكسه.
الكلام عن «أهل الشر» الذين يسعون لتقويض الدولة يحتاج إلى مراجعة جدية، فالوصف يستعصى على أى تعريف منضبط.
من هم بالضبط؟
وما وسائلهم فى تقويض الدولة؟
ولماذا يتصورون أن بوسعهم تحقيق ما يطلبون إذا لم تكن أجهزة الدولة نفسها على وضع هش يحتاج إصلاحا لا مكابرة؟
بعض الدبلوماسيون الأوروبيون الذين تابعوا المؤتمر الصحفى المشترك بين الرئيسين الفرنسى والمصرى تساءلوا عما إذا كان الأخير يقصد من «قوى الشر» أطرافا أوروبية بعينها.
التعميم الكامل خطأ فادح فى فهم التفاعلات الأوروبية.
بتوصيف دبلوماسى أوروبى مخضرم فإن التناقض فادح بين الحكومات الأوروبية التى تسعى لبناء شراكات استراتيجية مع نظام الحكم المصرى وبين «الميديا» والمنظمات الحقوقية ومراكز التفكير فى بلدانهم التى تدأب على حملات تنتقد بضراوة.
تصحيح الصورة بالإصلاح الجدى فى صورة الحكم ومدى التزامه بدولة القانون واحترامه للحقوق الأساسية لمواطنيه من متطلبات ردم الفجوة فى النظر إلى مصر ودورها ومستقبلها.
عندما تتوقف حيرة المصرى فى النظر إلى مستقبله وتصالح دولته الحقائق الديمقراطية فى عصرها تتوقف بالوقت نفسه حيرة الأوروبى فى النظر إلى مصالحه.