مستر «كان» - جميل مطر - بوابة الشروق
الأربعاء 23 أبريل 2025 1:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

مستر «كان»

نشر فى : الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 7:25 م

كانت أيامًا ثقيلة فى بكين تلك التى قضيناها، زوجتى وأنا، فى الفندق، وبخاصة عندما احتاجت زوجتى إلى رعاية طبية. لم يكن قد مر على وجودنا فى العاصمة الصينية إلا أسابيع قضيناها فى ظروف قاسية عندما أبلغتنى السكرتيرة بالسفارة أن قرارًا صدر فى وزارة الخارجية الصينية بتخصيص شقة لنا فى المجمع الدبلوماسى وعدم الالتزام بدورنا فى قائمة انتظار مطولة، وتكليف محل كبير فى وسط العاصمة بتوفير الأثاث اللازم لهذه الشقة، وتعيين طباخ متميز ومساعدة بيت مدربة. انتقلنا وسط ذهول الزملاء فى السفارة الذين توقعوا لنا إقامة ممتدة فى الفندق أسوة بعشرات الدبلوماسيين فضلا عن مصاعب شتى عندما نشرع فى البحث عن طباخ ومساعدة منزل مناسبين.

• • •

كانت المفاجأة سارة لزوجة غير مكتملة الصحة أن تقابل الطباخ المكلف بالعمل فى منزلها. لم يختلف الرجل فى الطبيعة عن الصورة النمطية لطباخ صينى فى العقد السابع من عمره، حليق الرأس تمامًا نظيف المظهر، أنيق فى بذلته الزرقاء التى يرتدى مثلها رئيس الوزراء وغيره من كبار القوم. لم يمد يده للتحية أثناء التعارف كعادة الآسيويين عمومًا. أذكره يقول، بلغة إنجليزية معدودة المفردات ولكن كافية لعلاقة عمل بين طباخ متمرس وربة بيت، ما معناه أنه مكلف بوضع أفضل خبراته فى خدمة هذه العائلة الصغيرة، وهو بالفعل ما فعله.

• • •

قضينا مع هذا الطباخ حوالى العام. أستطيع بغير مبالغة القول إنه منذ اليوم الأول لخدمته خلف لدى انطباعات عديدة ليس أقلها أهمية الانطباع فى الذاكرة بأن للمطبخ الصينى ثقافة لا يضاهيها مطبخ آخر. أعترف أن هذا الرجل وحده فرض علينا احترام المطبخ واحترام حرفة الطبخ. رأيته يتعامل مع مكونات الطبخة وأوانى الطبخ وأدواته كمعلم وسط تلاميذه أو قائد وسط جنوده، كل منهم فى أبهى حلة وكأنه يوم عيد.

• • •

كنت أستيقظ مبكرا، بعد الفجر بقليل، لأفتح له باب الشقة. أراه يتحرك بنشاط ابن الثلاثين. يبدأ يومه بتسخين الفرن «الصينى» وإعداد الدقيق والزبد والماء المغلى لوازم خبز الفطائر الضرورية لصحة «سيدة الدار»، الراقدة فى الفراش حسب نصيحة الأطباء. قرر بنفسه أن يطبخ لها كل يوم وجبة صينية لم يكرر واحدة منها على امتداد قرابة الشهرين. بالتأكيد كان لهذا الرجل الفضل وراء سرعة شفائها وفى الوقت نفسه إثارة عاطفتها النسوية تجاه مطبخ لم تدخله من قبل وهواية لم تتح لها ممارستها ودور لم تلعبه  قبل زواجها.

• • •

أذكر لهما مناقشات مهدت لتصبح زوجتى رائدة فى هذا الفن. أذكر زياراتها التى لم تنقطع لمطابخ سفارات وبيوت عقب تناول طعام أعده بامتياز طباخ أو طباخة. كان الطباخ الأشهر الذى عمل بسفارتنا فى روما ينتظر زيارتها فى مطبخه لتستخدم حقها المشروع بحكم علاقات الثقة والخبرة المتبادلة بينهما فى نقد بناء  للوليمة ككل؛  وعلى وجه التحديد لنوع معين كان يجربه لأول مرة. أسمعها تسأله عن نوع الزبد أو الزيت المستخدم، وتسأله عن موقع البائع أو البائعة فى السوق التى اشترى منها الخضرة واللحم، وتسأله عن مدة ودرجة حرارة الفرن الذى عهد إليه طهى الطاجين المغربى أو التيراميسو الإيطالى أو شيخ المحشى السوري.

• • •

لم يتردد المستر "كان" فى أن يطلب من زوجتى استخدام التسهيلات الممنوحة لنا لاستيراد احتياجاتنا من ضرورات المطبخ. أحيانا كنا نتلقى منه وريقات مسجل عليها باللغة الصينية أنواع بهارات ومنتجات زراعية مجففة أو مخزنة،  بدونها ، كما ادعى وصدقناه، تفقد الطبخة نكهتها المميزة والتى اشتهرت بفضلها على سواها من الأكلات الصينية المرموقة.

كانت هونج كونج ملجأنا الأسرع والأكفأ لتلبية طلبات المستر «كان»، وصرنا نتلقى الترحيب والإشادة من ضيوفنا الصينيين بجودة ما نقدمه على مائدتنا من الأطباق الصينية، ولكل طبق تاريخ نشأة وانتشار فى مقاطعة صينية بعينها كأن تتميز بطقس مختلف وموقع مختلف. بعد وقت غير طويل صارت زوجتى تلميذته النجيبة والمبدعة ثم على مر العقود صارت تطبخ بنفسها وتتلقى الإشادة من ضيوفنا من كل الأجناس التى عشنها بينها أو عاشت معنا، ومنهم أو قل فى صدارتهم الزملاء والزميلات فى الأهرام وغيرها من الصحف القاهرية وقيادات الدبلوماسية المصرية والأجنبية المعتمدة فى مصر. ومع كل إشادة وفى كل بلد كان عليها أن تحكى حكايتها مع الطباخ الصينى صاحب الفضل.

• • •

شاء حظها، وحظ أسرتها الصغيرة، أن ننقل إلى سفارتنا فى روما وقد سبقتنا فى الوصول سمعتنا كهواة طبخ. إذ حدث فى اليوم التالى لوصولنا أن زارنا فى الفندق طباخ السفارة يهنئنا بسلامة الوصول. بدا لى أن السمعة التى سبقتنا كانت وراءها السيدة حرم السفير إذ نقلت إلى طباخ السفارة أن سيدة فى العشرين من عمرها سوف تصل إلى روما قادمة من بكين حيث تلقت تدريبها  لمدة عام على يد أحد أعظم طهاة الصين. أذكر أنه، الطباخ المصرى لم يتردد وهو يقدم نفسه لنا فى الفندق، حيث كنا نقيم، كطاه تاريخى، لن يتكرر.

أذكره فى مآدب السفارة وقد ارتدى أفخر ما عنده من ملابس طباخين يخرج من مطبخه وينزل من الطابق الأول حيث يقيم السفير إلى الصالة الكبرى فى «فيلا سافويا» ليتلقى التهانى على ما صنعت يداه من أطباق إيطالية دوخت رؤوس المدعوين وأغلبهم من مشاهير الفن والإعلام. تسأله النساء عن سر مطبخه فيضحك ضحكة الساحر الذى يسأله جمهور المتفرجين عن كيف حقق المعجزة التى ابتدعها أمامهم. يصفقون ويهللون ثم يتوسلون، ولا من مجيب.

• • •

تقول ابنتى إنها عاشت تحاول أن تحصل من أمها على تفاصيل ما دخل فى صنع طبق بعينه، مصريا كان أم  إيطاليا أم  لبنانيا أم هندياأم مغربيا، حاز على إعجاب ضيوف بيتنا. دائما ما جاءت استجابة أمها فى شكل نظرة حنون وابتسامة ساخرة واعتذار مناسب «أخشى إن أنا أطلعتكم على أسرار مطبخى تستغنوا عنا فلا تزورون ولا تتوسلون ولا تعودوا تنبهرون».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي