أشعر بالقلق على تراجع الحس الإنسانى لدى قطاعات من الناس فى مجتمعنا. الشواهد كثيرة، ومن يفتش فى وسائل التواصل الاجتماعى يجد أمثلة على ذلك. ولم يعد الأمر يقتصر على قضايا ملتبسة، تحتمل القيل والقال، بل صار افتقاد الإنسانية ظاهرًا فى حقائق الحياة التى لا يختلف عليها أحد. من أكثر الأمور وضوحًا على ذلك هو الشماتة، وتقطيع سيرة الموتى بعد رحيلهم. لا أعرف من أى مورد يأتى هؤلاء الناس، الذين لا أريد أن أطلق عليهم تصنيفا معينا، ويمارسون الشماتة فى الموت. فى الخبرة القريبة هناك شخصيات رحلت وواجهت هذه الممارسة البغيضة مثل: د. رفعت السعيد، نوال السعداوى، مهدى عاكف، سيد القمنى، الشيخ أبو إسحاق الحوينى، الأنبا باخوميوس، البابا فرنسيس، وغيرهم. ونظرا لأن هؤلاء جميعا مختلفون فى الدين، والموقف السياسى، والرؤية الأيديولوجية، فمن المؤكد أن الذين عبروا عن شماتة فى وفاتهم، عكس غالبية الناس التى نعتهم، ليسوا كتلة واحدة، أو فصيلا واحد، بل هم مختلفون. وهذا فى حد ذاته مقلق، لأنه يعنى باختصار أن الشعور بالشماتة على وسائل التواصل الاجتماعى لم يعد مقصورا على فئة بعينها، بل امتد لشرائح بشرية متعددة، ربما تمارس النكاية فى مواجهة بعضها بعضا.
ويظل السؤال لماذا يشمت الشامتون فى موت خصومهم أو من يتصورون أنهم خصومهم؟
البعض يفعل ذلك بدافع التعصب، وكراهية الآخر المختلف، ويعبر عن مكنون مشاعره السوداء. والبعض الآخر يفعله ردا على شماتة الآخرين فى وفاة شخصيات تعز عليه فكريا أو دينيا، مثل الشماتة المتبادلة بين إسلاميين وعلمانيين فى وفاة شخصيات من هذا الجانب أو ذاك، وهناك فريق ثالث يشمت فى موت شخصيات معروفة رغبة فى الشهرة، والظهور، ليس بإنجازه، أو آرائه النيرة، ولكن بكلماته المتعصبة الجاهلة.
لم أرَ ــ على الأقل فى حدود علمى ــ أن الناس فى المجتمعات المتحضرة مهما بلغ الخلاف بينها تمارس الشماتة فى مواجهة بعضهم بعضا، بل قد يظهر من بعضهم مشاعر التأسف على رحيل شخصيات اختلف معها أو حتى جمعته خصومة معهم. أما فى مجتمعنا فنرى حشودا على وسائل التواصل الاجتماعى تمارس الكراهية والشماتة والبغضاء تجاه شخصيات رحلت، إننى على يقين بأن غالبيتهم العظمى لم يلتقوا بها، أو لم يقرأوا لها أو يطلعوا على مواقفها تجاه قضايا عديدة. ولا أعرف كيف أن مجتمعا يدعى التدين، ليل نهار، يقتنص ناس منه الحكم الإلهى، ويصدرون أحكاما على الناس بالهلاك أو الكفر أو جهنم، بينما الحكم لله وحده.
هؤلاء للأسف تربوا على الكراهية، ويعتقدون أنهم يتقربون إلى الله أو يحققون ذواتهم بكراهية الآخرين، لم يتعلموا تربية مدنية فى المدارس، ولم يجدوا عملا إنسانيا يشتركون فيه يهذب أخلاقهم، ولم يتطوعوا فى مشروع خيرى، ولم يتعلموا الفضائل الإنسانية، أو الأخلاق العامة، فضلا عن أن معارفهم الدينية مشوهة أو مشوشة، لا تعينهم أن يكونوا شخصيات أخلاقية حقيقية فى المجتمع.
فى كل مناسبة، نكتشف أن المجتمع المصرى يعيش فى أزمات اجتماعية وثقافية معقدة، وتُعد السوشيال ميديا مرآة لنفسية وآراء الناس، دون تهذيب أو ترويض، بالتأكيد ليس كل الناس، لأن هناك نماذج مضادة، وأحسبهم الأغلبية، على وسائل التواصل الاجتماعى يعبرون عن تواصل إنسانى مع الآخرين بمشاعر إنسانية إيجابية، ولا ينخرطون فى ترويج أية مشاعر سلبية تجاه الأحياء أو الأموات، لكن هذا لا يعنى الصمت أو التقليل من أهمية هؤلاء المضطربين نفسيا التى تعج بهم وسائل التواصل الاجتماعى.
وأيا كانت تقييمنا للشخصيات التى غادرت عالمنا، اتفقنا أو اختلفنا معهم، فقد صارت بين يدى الله، وليس مطلوبا من الإنسان العاقل سوى طلب الرحمة لها أو الصمت.