كل منا يعرف شخصا يتمنى لو اختفت من كل الوثائق والسجلات معلومات عن خطأ أو جرم ارتكبه ذات يوم فى الماضى عن قصد أو عن غير قصد. نعرف رجالا يتمنون ألا تصل إلى أيدى آخرين أوراق تكشف عن زيجات سابقة ارتبطوا بها أو ببعضها فى بلد أخرى غير هذا البلد، وفى زمان آخر غير هذا الزمان. نعرف أيضا نساء ورجالا عديدين يرجون ألا تظهر للعلن تفاصيل تجارب عاطفية دخلوها فى مرحلة الشباب، دفع بعضهم فى وقتها ثمنا وانتهت بالنسبة لهم، ولكنها تبقى «تاريخيا» سيفا مسلطا يهدد أو يداعب حاضرهم ومستقبلهم.
هناك عسكريون عظام سجل التاريخ لهم انتصاراتهم ولم يسجل هزائمهم وأخطاءهم. أغلب هؤلاء لا يريدون ولا تريد مؤسساتهم للسجلات أن تفتح. هناك أيضا سياسيون كانت لهم مواقف وآراء جادة وصريحة فى قضايا خطيرة، القضايا حلت أو توارت أما المواقف فهناك دائما من يتذكرها أو يحتفظ بها. بين هؤلاء من ارتكب غشا فى امتحان، أو جرى تعيينه، بالواسطة والمحسوبية أو بأى فساد آخر، فى وظيفة لم يستحقها. نعرف نساء ورجالا من المشاهير ساهموا فى مرحلة أو أخرى من حياتهم فى تدبير مؤامرة أو ارتكاب جريمة سياسية وأفلتوا من العقاب ولكنهم لم يفلتوا من ألم توقع اكتشاف أمرهم.
هؤلاء وغيرهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه مالا أو جاها أو قوة وفوق أكتافهم يقبع شبح الماضى لا يغفو، يؤرق مضاجعهم ويفسد أحلامهم ويكلفهم أموالا طائلة. يعيش القائد العسكرى حاضره قلقا ومتوترا، يخشى أن يأتى من يفرج عن الملفات القديمة المحفوظة تحت لافتة سرى للغاية ومحظور نشرها أو حتى الاطلاع عليها، وثيقة أو تحقيقا يثبت مسئولية هذا القائد عندما كان ضابطا صغيرا عن مصرع جنوده أو إخلائه موقعه بدون إذن متسببا فى مذبحة أو تدمير موقع. . ويعيش رجل السياسة حاضره قلقا ومتوترا. يخشى أن ينشط معارضوه فى البحث عن تسجيلات لمواقف اتخذها وعلاقات أقامها ومقالات كتبها سطر فيها ما لم يكن يحب أن يظهر فى الحاضر. كان أمل هؤلاء جميعا أن يكون مآل الأوراق إلى النسيان، بخاصة فى دولة تحجب المعلومات أو تخفيها وأحيانا تعدمها.
ثم جاء الانترنت، وشركاته العظمى، لتخيب كل هذه الآمال فى أن السر سيظل مكتوما، أو على الأقل، محفوظا مع الفئران فى أقبية رطبة ومظلمة، إذ فجأة وفى سنوات معدودة انتقلت المعلومات من الأقبية ومخازن الورق أو أدراج من الصفيح إلى فضاء بلا حدود وإمكانات حفظ بلا معوقات واستعدادات للاطلاع بلا قيود.
●●●
تقول إحدى المعلمات فى مدرسة ثانوية فى الولايات المتحدة إن التلميذات ينظرن إليها نظرة تحمل الكره أحيانا والشفقة أحيانا أخرى. السبب فى رأيها يعود إلى حادث وقع لها قبل ثلاثين عاما حين كانت طفلة فى الثالثة من عمرها. تركتها أمها فى غرفة النوم مع شقيقتيها المولودتين قبل أسبوع. عادت الأم من المطبخ لتجد الرضيعتين وقد فقدتا النفس. تصورت الطفلة ذات الثلاثة أعوام أن الرضيعتين لعبتان ستصدران أصوات كالضحك والبكاء لو كتمت أنفاسهما.
قضت المعلمة ثلاثين عاما تشكو وتئن. ثلاثون عاما كانت مدة كافية لينسى الناس وتبقى وحدها لتتألم فى صمت. لم تعرف ولم يدر بخلدها للحظة واحدة أن الانترنت سوف يظهر ليسقط الثلاثين عاما من حساب الزمن. ظهر الانترنت ليجعل الماضى متصلا بالحاضر ويربطهما معا بمستقبل هذه المعلمة المسكينة ليتجدد عذابها بسبب ما ارتكبت وهى طفلة لا تفهم.
●●●
كثير من الناس فى أمريكا يضغطون على شركات الانترنت للخروج بحل يضمن لهم حماية خصوصياتهم. المعروف أنه فى إحدى الولايات يقضى القانون بأن القاضى الذى يحكم ببراءة متهم يأمر بإعدام جميع أوراق القضية. ما لم يقدره المشرعون فى هذه الولاية هو أن تفاصيل المحاكمة سبق أن سجلها صحفيون وتحتفظ بتسجيلاتها شركة جوجل ليطلع عليها كل من يريد.
يدافع جوجل والصحفيون عن حقهم فى الاحتفاظ بما نشر عن القضايا وعن حق الناس فى الاطلاع عليها بالقول بأن لكل واقعة وجهان: وجه يمثل « الواقعة التاريخية» ووجه يمثل «الواقعة القانونية». قد يكون من حق القاضى، أو جهة رسمية فى الدولة، محو واقعة قانونية، ولكن ليس من حق، ولا فى مقدور، أى جهة أو شخص محو الواقعة التاريخية.