انحدار جديد سُجل فى منظومة العلاقات الطويلة والصعبة والمضطربة أحيانا بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورؤساء الأذرع الأمنية. فى البداية حاول نتنياهو فى بيان رسمى خارج عن المألوف إحالة مسئولية وقف إطلاق النار ــ الذى فرضه عليه الرئيس الأمريكى جو بايدن ــ على الجيش والأجهزة الأمنية الأُخرى. بعدها فورا، وفى تسريبات إلى وسائل الإعلام بدأت الافتراءات على أداء الجيش فى العملية على قطاع غزة، من أجل تحويل أى اتهام لنتنياهو بالعملية الخاسرة.
جاء فى بيان قرار المجلس الوزارى المصغر أنه تمت الموافقة على وقف إطلاق النار بالإجماع وفق «تصويت كل الجهات الأمنية ــ رئيس الأركان، ورئيس الشاباك، ورئيس الموساد، ورئيس مجلس الأمن القومى». إنها محاولة مكشوفة للاختباء خلف إجماع الأطراف المهنية بدلا من تبرير اعتبارات المستوى السياسى لوقف إطلاق النار. ولهذا علاقة بالتسريبات المقصودة فى الأيام الأخيرة عن أن الجيش يضغط على نتنياهو لإنهاء العملية، وأن رئيس الحكومة لا يزال يفكر فى ذلك.
لكن الأمر الأساسى جرى الاحتفاظ به من أجل التسريبات التى وصلت بعد دقائق معدودة من انتهاء الجلسة. فقد أفاد مراسل «هاآرتس» يهونان ليز بأن أطرافا شاركت فى الجلسة قالت إن المعلومات الاستخباراتية التى زُودت بها العملية كانت «ركيكة» ولم تقدم «أهدافا تغير الواقع»، بينما فشل سلاح الجو فى تدمير شبكة الأنفاق الهجومية التابعه لـ«حماس» و«المترو» الشهير الذى كان إحدى المهمات المركزية للعملية. كما انتقد عدد من الوزراء فشل محاولات اغتيال مسئولين كبار فى «حماس»، واستمرار سقوط الصواريخ على إسرائيل حتى فى الليلة الأخيرة من العملية. ونقلت وسائل إعلامية هجوما شنته الوزيرة ميرى ريغيف على رئيس الأركان أفيف كوخافى خلال الجلسة. وقيل إن ريغيف طالبت باستمرار العملية وكوخافى تحفظ عن ذلك (ريغيف أصدرت بيان تكذيب).
مَن يطرح هذه الحجج يعتمد بصورة أساسية على الذاكرة القصيرة للجمهور. أولا، الادعاءات بشأن عدم وجود أهداف، وصعوبة تنفيذ الاغتيالات، وإطلاق الصواريخ حتى اللحظة الأخيرة، هذه الادعاءات تُطرح فى كل عملية مشابهة فى القطاع. وهى جزء من القيود المعروفة فى المواجهة مع تنظيم مسلح يعمل فى منطقة مكتظة بالسكان المدنيين. ثانيا، فقط قبل يومين أو ثلاثة أيام كرر رئيس الحكومة والناطقون بلسانه والمتملقون له الادعاء أن العملية الحالية تختلف عن غيرها، وبقيادة نتنياهو تتحقق إنجازات غير مسبوقة.
عندما كان بنى غانتس رئيسا للأركان اعتاد التساهل مع نتنياهو فى قرارات شبيهة لإنهاء جولة قتال وتحميل الجيش الإسرائيلى المسئولية. يبدو أن كوخافى، الذى ربما يدرك أكثر الظروف السياسية المعقدة السائدة حاليا، هو أقل استعدادا للتطوع لهذه المهمة. حينها ما العمل من أجل الدفاع عن الصورة المجروحة والمكدومة لرئيس الحكومة كسيد الأمن، أيضا عندما يتواصل سقوط الصواريخ؟ يشددون على الاتفاق الكاسح على المستوى المهنى ويتعمدون توجيه الافتراءات إلى أداء الجيش.
على ما يبدو النجاحات العملانية للجيش الإسرائيلى فى القتال كانت محدودة وهى بالتأكيد لا تتلاءم مع أجواء النشوة التى أشاعها جزء من الجنرالات السابقين فى الاستديوهات. «حارس الأسوار» هى عملية أُخرى من سلسلة عمليات محدودة فى قطاع غزة، ليس هناك مَن يراهن فعلا على أنها ستزيل التهديد الأمنى الذى يشكله القطاع. لقد كان هناك إحباط قبلها وعلى ما يبدو سيكون هناك إحباط بعدها. لكن محاولة اتهام الجيش بوقف إطلاق النار هو تشويه سخيف للحقائق. العملية انتهت لأن البيت الأبيض نفذ صبره إزاء القصف الإسرائيلى فى غزة. وهذا لا علاقة له بمسألة عدد منصات إطلاق الصواريخ التى دُمرت، وعدد المسئولين الكبار فى «حماس» الذين أُزيلوا من قائمة الأهداف.
ينهى نتنياهو العملية، تحديدا كما توقع مسبقا، بخيبة أمل معينة. فالحريق الأمنى الذى تسبب هو نفسه به من خلال الدعم الذى منحه للخطوات الاستفزازية للشرطة فى القدس، أحبط مساعى تأليف حكومة التغيير التى سعت لإبعاده عن الحكم. لكن طريقه إلى تأليف حكومة جديدة لا يزال غير ممهد. صفارة النهاية التى وضعته فى حالة تعادُل مخيب للأمل مع «حماس» لا تحسن مكانته لدى الجمهور. فى هذه الأثناء هو يخوض مواجهة مع خصومه السياسيين (وفى مواجهة النيابة العامة) ويشن معركة تراجُع وتأجيل لا معركة هجوم هدفها الانتصار. وأمس انضم إلى خصومه أشخاص كثر.
فى ظل كل هذه الاضطرابات هناك جانب مشرق واحد يتعلق بالأبواق. طوال الأسابيع الأخيرة أشادت هذه الأبواق بحكمة وبطولة رئيس الأركان كوخافى الذى أنزل ضربة قاصمة بالخصم الحمساوى برعاية نتنياهو. لقد صُوِر كوخافى فى أوساط نتنياهو كأعظم قائد يهودى منذ أيام بار كوخبا. كل هذا انتهى عندما كان المطلوب إيجاد كبش فداء جديد بسرعة. هذه المرة المطلوب مرونة نادرة من هؤلاء المنتفعين فى تقديمهم الحجج المتغيرة. ونتساءل كيف سيواجهون التحدى هذا الصباح.
هاآرتس
محلل عسكرى
مؤسسة الدراسات الفلسطينية