انتهت الانتخابات فى لبنان، وتنفس العالم الصعداء. واعترفت جماعات الرقابة الدولية التى تزيد على العشرين بأن الانتخابات كانت شفافة، وعادلة وديمقراطية.
وهو إنجاز يستحق الاحتفال، أولا لأن هذا نادر فى المنطقة، وثانيا لأن المواطنين اللبنانيين اختاروا الثقة فى عملية انتخابية سلمية تقرر نتيجة اختلافاتهم الحادة، بسبب جميع التوترات، وحالة التحفز، وحرب الكلمات طوال السنوات الثلاث الماضية منذ نهاية الحرب الإسرائيلية على البلاد.
وهناك جانب رئيسى ثالث يستحق الاحتفاء من منظور البلدان الغربية، والبلدان العربية المعتدلة (كما نواصل تسميتها لعدم وجود كلمة أفضل): فقد أسفرت الانتخابات عن هزيمة القوات التى ترفع راية «التحدى» وفى صدارتها حزب الله.
وقد برهن ذلك على أن الحركات الإسلامية، ليست دائما القوى المسيطرة على النفوذ، التى تجتاح حتما جميع القوى الأخرى فى مد كاسح بمجرد إتاحة الفرصة لها للمنافسة.
بل جعل من حزب الله قوة يمكن التحكم فيها، بعد أن أدرك محدودية شعبيته وبالتالى قد يساعد ذلك الإدراك (مثلما يتمنى معسكر الرابع عشر من آذار الفائز) على أن يكون الحزب أكثر قبولا للتسوية السياسية، ويزيل فى نهاية المطاف الطابع المقدس لتسليحه، ويجعل منه أمرا قابلا للتفاوض.
بالطبع لاتزال جميع القضايا الجوهرية لم تحل، غير أن لبنان، أكثر الأنظمة هشاشة فى المنطقة، قد استطاع أن يعبر سلميا من ضفة تتنافس فيها الفصائل بصورة مريرة وتهدد كل منها الأخرى، إلى ضفة أخرى يحتاج فيها الجميع الآن إلى أن يجلسوا معا لتطوير آليات الحفاظ على النظام.
وطوال الوقت، يلتقى الزعماء اللبنانيون من مختلف الأطراف، ويؤكدون للرأى العام أنهم يجرون مشاورات شبه دائمة، ولكن الحقيقة أن هذا الحوار الوطنى تعطل منذ ثلاث سنوات تقريبا، وأن الانفراج الحالى فى المناخ السياسى للبلاد، يرجع بشكل عام إلى التهدئة السائدة على المستوى الإقليمى عقب تغيير الإدارة فى الولايات المتحدة الأمريكية.
فالانتخابات التى قامت على أساس القانون الانتخابى لعام 1960، حصرت فى الواقع كل فرد لبنانى داخل جماعته (أو جماعتها)، ولم تترك للمواطنين خيارا سوى التصويت لممثلى طوائفهم. وفى هذا الصدد، تمثل الانتخابات الأخيرة انحدارا نحو المزيد من ترسيخ الطائفية، حيث يلعب الزعماء الدينيون على نحو متزايد دور الممثلين السياسيين.
ومن ثم، فقد أبرزت الانتخابات الأزمة على ثلاثة مستويات: أزمة الدولة، التى تحتاج لإعادة تحديد موقفها، وتحديد علاقاتها الجغرافية السياسية، وأزمة بالنسبة للمواطن اللبنانى وثقافته، وأزمة على مستوى كل طائفة فى علاقتها بالدولة.
فإذا تجاوزنا ما هو معروف من تشرذم وسلوك طائفى، هناك مجموعة من الاعتبارات، التى تربط النخبة السياسية فى البلاد معا. أولا، كان جميع الزعماء السياسيين يتوقون إلى إجراء الانتخابات، لأنها تخدم أولا وقبل كل شىء غرض إعادة إنتاج نفس النوع من السلطة السياسية التى تسمح للنخبة السياسية بإعادة إنتاج نفسها، والمحافظة على سيطرتها على كل طائفة، وعلى كل جزء من صلاحياتها فى الدولة.
حتى حزب الله، والذى يعتبر قوة حديثة نسبيا، تصرف باعتباره حزبا سياسيا، وليس ممثلا عن قوة ميليشيا شيعية إقليمية، استطاع أن يضمن لنفسه حصة تساعده فى تأمين موقعه داخل النظام.
والاعتبار الرئيسى الثانى هو أن دين لبنان العام بلغ مستوى يضع البلد على حافة إفلاس. فالدين، كما هو مقدر الآن، يساوى مِثلَى الناتج القومى الإجمالى اللبنانى. وبينما يرفع محللون من خارج اللعبة السياسية أيديهم محذرين، ويرون أن ذلك نتج عن سياسة مالية غير مسئولة، أبدى الزعماء السياسيون تضامنا ملحوظا.
وارتبطوا فى علاقة أشبه بالزواج الكاثوليكى مع مجموعة أساسية من رجال الأعمال والبنوك لتجنب الانهيار الكامل للنظام المالى والاقتصاد. وليس هناك مَن هو مستعد لإلقاء اللوم على وزير ما أو آخر، لأن الجميع يستفيدون من هذا النظام.
وتمت التضحية بالمسئولية والمساءلة ومن ثم زاد ضعف الدولة. فعلى الرغم من أن مثل هذا النظام ــ الذى يشجع التواطؤ محكم الترابط بين القوى الرئيسية فى البلاد ــ يمنع وقوع صراع علنى بين الفصائل، لكنه يمنع أيضا تنفيذ إصلاحات عميقة وجادة، كما أنه يعيق إدراك الحجم الكلى للأزمة قبل حدوث انهيار فعلى.
ثالثا، هناك اعتبار أكثر إيجابية، نشأ عن السنوات الأربع الأخيرة من الخلافات الداخلية التى تلت انسحاب القوى السورية من البلاد فى ربيع عام 2005، حيث يبدو أن جميع الأطراف تفضل تعزيز دور الرئيس كوسيلة لإيجاد بديل عن بروز حَكَم خارجى.
وبينما كان اسم اللعبة، سلطة النقض (الفيتو)، أو «الثلث المعطل» خلال السنوات الثلاث الماضية، هناك حديث الآن عن العمل على تعزيز السلطة فى المركز بمعنى المحيطين برئيس الجمهورية وجعل الدولة المركزية قوة أكثر جاذبية عبر تعيين وزراء رئيسيين أكفاء ومحايدين سياسيا. ولم يتضح بعد ما إذا كانت مثل هذه الصيغة سوف تلقى تأييد المعارضة وأعنى هنا حزب الله والمعسكر المسيحى بزعامة الجنرال عون ولكن هناك مؤشرات على أن هذه القوى لا تصر على سلطة النقض، بنفس إصرارها قبل الانتخابات.
ويبدو أن جميع القوى فهمت أن المعادلة هى: إما الانخراط بطريقة شجاعة ومسئولة فى عملية سياسية سوف تؤدى بمرور الوقت إلى الابتعاد عن السياسة الطائفية، أو مواصلة الاعتماد على عنصر خارجى للقيام بدور المُحكِّم.
ومن الواضح أن الانتخابات لم تحل الأسئلة الوجودية التى يتعين على النخبة الحاكمة اللبنانية بحثها، وهى بالتحديد هل يريدون للديمقراطية فى لبنان أن تكون توافقية أم تنافسية؟.. وكيف يمكن للبلاد تعديل التمثيل لضمان المشروعية من ناحية، وضمان فاعلية حكومة، قادرة على إصدار قرارات وتنفيذها من الناحية الأخرى؟..
وكيف يحدد لبنان موقعه داخل بيئته الإقليمية، هل يظل خارج الصراعات والمنافسات الجغرافية السياسية، أم يشارك كطرف كامل الأهلية؟ وكيف يعمل للحفاظ على استقراره، وعلى مهمته التاريخية كملاذ للجماعات المعرضة للخطر من دون أن يصبح بلدا انعزاليا؟
وبعد أن تصبح الانتخابات ماضيا بالنسبة للبنانيين، من الأرجح أن يستأنفوا حوارا وطنيا جادا لبحث أنواع التغييرات المؤسسية والآليات الجديدة التى تستطيع منع الشلل الذى شهدوه خلال السنوات القليلة الماضية، وتحويل نظامهم السياسى إلى نظام فعال.
إلا أنه يحق للمرء أن يتساءل عما إذا كانت نقطة البداية المناسبة لإعادة بناء صيغة سياسية فعالة يجب أن تكون عبر مناقشة الإصلاحات المؤسسية. فيبدو أن هناك نقاط بداية أخرى تستحق البحث من أجل بناء الثقة بين الطوائف بدلا من السعى وراء حلول لعدم ثقة كل منها فى الأخرى عبر ترتيبات مؤسسية.
فلا يجب تحميل المؤسسات بما هو فوق استطاعتها. ففى أى بلد فى العالم تكون المؤسسات انعكاسا لنوع من التوافق على تعريف الأمة، ورؤية مشتركة للدولة والمجتمع. فهل سيرقى الزعماء السياسيون فى لبنان إلى مستوى هذا التحدى الوطنى؟
مديرة مبادرة الإصلاح العربى