في الألعاب الإلكترونية هناك دائما مستوى من شبه المستحيل تجاوزه، هذا الوحش الأسطوري الرابض يتربص ليفتك بك، فلا تستطيع العبور إلى المرحلة التالية. هذا المستوى مصمم بحيث يثير في اللاعب تلك الرغبة الحارقة في العودة إلى اللعبة، يفكر فيها أينما كان. في الصحو وفي النوم يطارده السؤال: كيف ستتغلب على الوحش؟
مرحلة إعادة هيكلة الدعم، هي لحظة يتنامى فيها الخطاب عن العدالة الاجتماعية وتحدياتها وتجلياتها. هي لحظة ينتظر فيها الجميع -مواطنين وسياسيين- التغلب على الوحش، تمهيدا للانتقال إلى المرحلة التالية. تعيش مصر تلك اللحظة، ولا تظهر الحكومة حتى الآن بمظهر اللاعب القادر على عبور مرحلة الوحش. فهي لا تملك تصورا معلنا للشكل الذي سوف يستقر عليه هيكل الدعم بعد إزالة التشوهات الحالية، ولا وثيقة مكتوبة عن ماذا تعني بالتشوهات، ولا حتى طرق جبر المتضررين.
يفتقر الخطاب الحكومي الحالي إلى بيانات رسمية دقيقة عن وضع العدالة الاجتماعية وعن اللا مساواة. ويغيب عن الخطاب الحكومي أيضا أي قياس للأثر الاجتماعي الناتج عن الإجراءات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة خلال الأعوام الأربعة الماضية.
في نفس تلك اللحظة، تظهر محاولتان جادتان لقياس العدالة الاجتماعية في مصر وتطورها. كلاهما غير حكوميتين.
يجمع بين المحاولتين التفكير المركب والتعريف الواسع للعدالة الاجتماعية، بناء على معايير ومؤشرات متعددة تتجاوز الإحصاءات الاقتصادية المجردة.
الفجوات الأربعة
المقاربة الأولى هي "مؤشر العدالة الاجتماعية المصري"، الذي يقترحه الدكتور ماجد عثمان، وزير الاتصالات السابق والرئيس الحالي لمركز بصيرة لقياسات الرأي العام، في دراسة صدرت حديثا عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية. وهو مقياس كمي، أي أنه يترجم المعايير المختلفة إلى أرقام تدل على وضعها.
ويقيس المؤشر التفاوت الاجتماعي عبر عدد من المؤشرات الخاصة بكل جانب من جوانب تنمية رأس المال البشري (مثل الصحة والتعليم والنفاذ إلى المعرفة والتوظف والترفيه)، إضافة إلى مؤشرات أخرى تتعلق بجوانب تنمية رأس المال الثقافي والاجتماعي (الثقة، الإحساس بالأمان، المشاركة، التفاؤل بالمستقبل).
ويقيس مؤشر العدالة الاجتماعية في مصر مستوى اللا مساواة في كل من تلك المعايير الناتج عن الفجوات الأربعة: من حيث الثروة والنوع الاجتماعي والموقع الجغرافي وأخيرا الفجوة بين الأجيال. يوضح الرقم ١ حالة المساواة التامة (بين الريف والحضر، أو الغني والفقير وهكذا)، وكلما ارتفع رقم المؤشر دل ذلك على ارتفاع مستوى اللا مساواة.
أهمية المقياس أنه يشير إلى صانع القرار على مناطق انعدام العدالة الأولى بالرعاية، كي يوليها من الاهتمام والعلاج ما تستحق.
وعليه، يشير المقياس مثلا إلى الفجوة الكبيرة بين شريحة ال٢٠ في المائة الأغنى وشريحة العشرين بالمائة الأفقر من السكان وأثرها الكبير على وفيات الأطفال وعلى التعليم ما قبل الابتدائي والتعليم العالي، ونوعية الوظائف وتحصيل المعارف والقراءة واستخدام الكمبيوتر. وكذلك أثرها على المشاركة السياسية وفي الأنشطة المجتمعية وفي الرضا وفي الإحساس بالأمان. هناك أيضا الفجوة الكبيرة بين الذكور والإناث في معدل التوظيف وفي الصحة النفسية.
وبينما قد يبدو لقارئ الدراسة للوهلة الأولى في معيار مثل "التفاؤل بالمستقبل" أنه لا فرق كبير بين ريف وحضر أو شباب و شيوخ أو ذكور وإناث أو أغنياء وفقراء، إلا أن كل تلك الفئات عبرت عن مستوى مرتفع من عدم التفاؤل (أكثر من ٧٠ ٪ كل فئة)، أي أنه لا توجد فجوة كبيرة، لأن كل المواطنين في التشاؤم سواء. وكذلك، تنخفض نسبة الرضا عن الحياة لدى كل الفئات عن ٣٠٪. "تلك القيم مثيرة للقلق حين نتحدث عن العدالة الاجتماعية وعن الرفاه الاجتماعي عموما. لذا فهو موضوع ذو أولوية إذا ما أردنا توخي الاستقرار"، تحذر الدراسة.
ستبقى تلك هي المحاولة الأشمل والأهم في قياس التفاوت الاجتماعي بشكل كمي. ولا يعيبها أنها حاولت التصرف بأفضل ما يمكن في غياب مصادر محدثة وموثوقة للإحصاءات الرسمية. فهذا يعني أن تقديراتها متحفظة للغاية، وأنه في حالة وجود البيانات المطلوبة فإن الفجوات معرضة لأن تكون أكبر.
من الأحمر إلى الأخضر
المقاربة الثانية هي مؤشر التقدم الاجتماعي في مصر، وهو موقع عمل على إعداده عدد من منظمات المجتمع المدني، ما زال تحت التطوير. ويمتاز المؤشر بأنه يجمع بين المؤشرات الكمية (مثل معدل البطالة، أو التضخم، أو نسبة الأمية) وبين المؤشرات الوصفية (مثل العقبات أمام ممارسة العمال لحقهم في التنظيم، أو القوانين المنظمة للحيازة الزراعية). وشارك في إعداد مادته حوالي خمسين من الخبراء والباحثين والأكاديميين.
يقيس مؤشر التقدم الاجتماعي في مصر مستوى الرفاه الاجتماعي والاقتصادي في ستة مواضيع: الصحة، التعليم، العمران، الغذاء والمياه والأرض الزراعية، العمل، والسياسات الاقتصادية. وذلك مع تعميم قياس قضايا النوع الاجتماعي في المواضيع الستة وكذلك قياس درجة إتاحة البيانات الإحصائية في كل منها.
وينقسم كل موضوع إلى أكثر من عشرة مؤشرات فرعية، تعكس الدستور وأهداف رؤية مصر٢٠٣٠ والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها مصر. ويهدف القائمون على المؤشر لعب "دور تكميلي للمؤشرات الاقتصادية الكلاسيكية، بغرض تشجيع الجهود نحو سياسات عامة أكثر عدالة قائمة على الأدلة".
وبدلا من المقياس الكمي، يعتمد المؤشر مقياسا لونيا يتدرج بين الأخضر (تقدم جيد) والأحمر (لا يوجد تقدم) بحسب أداء مصر في كل من المؤشرات الفرعية، ليساعد بدوره في تحديد المجالات الأكثر حاجة للإصلاح.
ويستعين المؤشر بأدبيات الأمم المتحدة وبأداء أفضل خمس دول تقع في نفس مستوى الدخل (متوسط متدني) مع مصر في وضع علامات قياس درجة التحسنbenchmarks.
سوف تنشر تفاصيل المؤشرات الفرعية في الموضوعات الستة تباعا على مدى الأشهر القادمة. إلا أن المشروع التطوعي يتسم بطموح جدير بمؤسسات كبيرة، ويبقى التحدي في تحديث هذه المؤشرات (الثمانين)، لا أن تنشر لمرة واحدة.
إجمالا توفر مثل هذه المقاربات رسم صورة للوحش الذي يجدر بمصر محاربته، وتحاول تتبع أثر الإجراءات التي تتخذها الحكومة على تلك الحرب. فهل يمكن أن تستفيد الحكومة من هذه الأدوات؟
سلاح المعلومات
يضع الطفل يديه على عينيه مقتنعا أنه هكذا يختفي عن الأنظار. تتعامل الحكومة مع البيانات الإحصائية على نفس هذا النحو. فإن هي أخفت حقيقة العدالة الاجتماعية عن الأعين، فإنما لن يراها الناس. للأسف، يجد كل المتابعين للشأن الاقتصادي في مصر ردة كبيرة في انتظام صدور بعض الإحصاءات الرسمية التفصيلية وقابليتها للمقارنة بالأعوام السابقة. هكذا يجرد غياب المعلومات والبيانات مثل تلك المحاولات المستقلة من أهم الأسلحة لمحاربة الوحش.
ولعل في مثال رفع الدعم عن أسعار الطاقة ما يوضح.
لم تنشر الحكومة منذ بدأت خطة رفع الدعم عن الطاقة عام ٢٠١٤ أي بيانات عن توزيع هذا الدعم وأعطت الانطباع أن القطاع المنزلي هو وحده من يحصل على الدعم، أو الجزء الأكبر منه. في حين أن الدعم موزع بين القطاعات المختلفة: الزراعة والصناعة والخدمات والقطاع الحكومي إلى جانب القطاع المنزلي.
كما لم تنشر الحكومة أي بيانات عن هيكل الدعم، أي توزيع الدعم على أنواع الطاقة المختلفة (البنزين والسولار والغاز الطبيعي والكهرباء والبوتاجاز والكيروسين). وأعطت الانطباع الخاطئ أن البنزين والسولار (المستخدم في وسائل النقل)، إضافة إلى الكهرباء في المنازل هما السبب في ارتفاع فاتورة دعم الطاقة. إلا أن الفاتورة ما زالت مرتفعة (٩٠ مليار جنيه العام القادم) على الرغم من خمس سنوات من الارتفاعات المتتالية في الأسعار تحملتها الأسر المصرية. ولكن لا توجد إحصاءات عن أي أنواع الطاقة يحصل على ذلك المبلغ الضخم (قياسا بالإحصاءات التاريخية، ليس البنزين ولا البوتاجاز المنزلي إلا جزءا قليلا).
وأخيرا، أعطت الحكومة الانطباع أنها تقود خطة ناجحة للقضاء على دعم الطاقة، في حين أن البرنامج الذي طبقته بإشراف الصندوق أدى إلى مضاعفة ذلك الدعم منذ التعويم (من ٥١ مليار إلى ١١٥ مليار جنيه)، وهي تحاول الآن فقط أن تعود إلى نقطة ما قبل برنامج "الإصلاح"، كما يحبون أن يسموه.
لا توضح بيانات الحكومة أن عجز الموازنة العامة (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) قد زاد بمقدار 4 نقاط مئوية، عما كان مستهدفا بعد المراجعة الأولى، وفقا لما جاء في تقرير المراجعة الثاني لصندوق النقد الدولي: "لقد أدى الارتفاع في أسعار الفائدة بأعلى مما هو متوقع إلى عجز كلي أعلى من المستهدف، وذلك على الرغم من إجراءات تعويضية معتبرة". الأثر على العجز إذن محدود، بعكس الأثر على جيوب الناس.
ولا تتحدث عن الأثر على رفع جودة الخدمات الحكومية، فأي وفر يتحقق في الموازنة العامة يذهب إلى البنوك والمستثمرين الذين يملكون أوراق الدين الحكومية في شكل مدفوعات فوائد.
هي كلها انطباعات تعممها الحكومة قد لا تنم عن الحقيقة، إذ لا نستطيع أن نتأكد في غياب المعلومات. الوحش كما في اللعب متعدد الحيل.
المستوى الثالث والأخير
يعرف الدكتور ماجد عثمان العدالة الاجتماعية على أنها التفاعل الحركي بين حالة اللا مساواة وحالة العدالة النسبية. وقد يتولد عن ذلك التفاعل ثلاثة مخرجات، ينم كل منها عن شكل أو تعبير ما عن العدالة. أضعفها، قريب من الحالة المصرية، هي "العدالة التعويضية، حيث تبادر الأطراف الأقوى بالأعمال الخيرية والإحسان على الأضعف والأكثر هشاشة. وهي أعمال بطبيعتها مؤقتة وانتقائية، لذا فهي تحول مفهوم العدالة إلى شعارات فارغة من مضمونها".
وتستهدف الدول أن تعبر منها إلى العدالة التوزيعية والحمائية، ثم إلى المرحلة الأهم، وهي المساواة الشاملة.
وهي تعني أن ينظر الجميع إلى شبكات الحماية الاجتماعية على أنها حق لكل أفراد المجتمع، في الحاضر وفي المستقبل. وهي تتضمن إلى جانب حماية المساواة في الحقوق، المساواة في الفرص، والتوزيع العادل للثروات، وأيضا انخراط الجميع في النقاش والتفاعلات العامة.
يصارع عدد من الشعوب العربية منذ ما يقرب من عقد من أجل الوصول إلى المساواة الشاملة المبنية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (هو وضعٌ وُجد في بعض الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية منذ الخمسينات
من القرن الماضي، وإن كانت تبتعد عنه تدريجيا. ويقترب منه حاليا عدد من الدول النامية).
كيف نعرف أننا نجحنا في تخطي مرحلة الوحش؟ حين نصل إلى ما تسميه أدبيات الاقتصاد بالمستوى الثالث من العدالة الاجتماعية: وفيه تبرهن الدولة على عزيمتها القوية لإحداث التغييرات المطلوبة من أجل تنمية عادلة ومستدامة من خلال السياسات العامة والحكم الرشيد (محاصرة الفساد واتباع أفضل الممارسات الحكومية). وحين تسود المجتمع قيم المساواة وسيادة القانون ما يسهم في إحداث تحول ثقافي من شأنه أن يقضي على كافة أنواع التمييز. حلم صعب المنال؟ هكذا هو مستوى الوحش.
الإصلاحات التدريجية على مراحل هي ما تنادي به الأدبيات. ولكن التجربة المصرية المعاصرة أثبتت صعوبة حدوث ذلك على أرض الواقع بالتدريج وبالطرق السلمية، حيث أدت في كل مرة إلى أن أكل الوحش اللاعبين.