فى التغريب والاغتراب والاستغراب - يحيى عبدالمبدي محمد - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:18 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى التغريب والاغتراب والاستغراب

نشر فى : السبت 22 يونيو 2024 - 7:10 م | آخر تحديث : السبت 22 يونيو 2024 - 7:10 م

فى ظل صدمة الكثيرين حول العالم عن حقيقة قيم الثقافة الغربية منذ أحداث غزة وحرب الإبادة التى يتعرض لها سكانها، ومع تراجع الإعجاب بالثقافة الغربية وحملات مقاطعة المنتجات الغربية، تعرّضتُ لثلاثة مواقف تتعلق بشكل أو بآخر بظاهرة مركزية الغرب، ومفاهيمه الملتبِسة لدى الشعوب العربية. هذه المفاهيم والقيم التى تنقسم المجتمعات العربية تجاهها بين التبنّى والإعجاب والتقليد من جهة، وبين العداء والازدراء من جهة ثانية. وهى معركة قديمة تعود إلى بداية لقاء أو صدام الغرب الحديث بالشرق فى نهاية القرن الثامن عشر.
سأبدأ سرد المواقف حسب ترتيبها الزمنى من الأحدث فالأقدم، فقد وصلت القاهرة المحروسة لقضاء عطلة الصيّف بين الأهل والأصدقاء مثل عادتى فى السنوات العشرين الأخيرة، وقررت أخيرا أن أستجيب لشركات التسويق العقارى الكبرى التى تتّبع، وترصد، وتلاحق، وتطارد الفرائس المستهدفة. وبالفعل ذهبت لاجتماع فى مقر الشركة التى تقع فى بناية مصمّمة خارجيا وداخليا على النمط الغربى الأمريكى تحديدا. رغم أهمية الشكل والعمارة، تجاوزت الملاحظة، والتقيت بثلاثة أفرادٍ على التوالى فى لقاءات فردية، ثم جماعية استنساخا للأسلوب والطريقة التى اعتدت عليها فى الغرب؛ المنظور والممارسة، والطقوس والسلوك، واللغة والإيحاءات، ولغة الجسد أمريكية بامتياز، خصوصا عند اجتماعى مع الموظف الأقدم والأعلى رتبة. لم أقيّم الموقف، ولم أنتقده، بل تفهّمت السياق بأننى فى «إيجيبت»، ولست فى مصر كما يتندر البعض. خرجت من الاجتماعات التى استغرقت ساعتين باتفاق وراحة من أسلوب تعامل اعتدت عليه. وبالفعل سددت إلكترونيا مبلغا من المال يُعرف بجدية الحجز، على أن أسترد هذا المبلغ فى حالة التراجع عن الاتفاق المبدئى أو لأى ظرف قد يطرأ. ولكن اللافت بعد مرور عدة أيّام أننى تواصلت مع الشخص الأقدم، وأخبرته أننى قد غيرت رأيى بعد زيارة موقع المشروع على أرض الواقع، وفجأة تحوّل الموظف «المتغربن» أو «المتأمرك» إلى شخص آخر، وعاد إلى طبيعته وثقافته، فوقع فى كل محرمات الثقافة الغربية من تدخّلٍ فى قرارى، وحياتى الشخصية، ومستقبلى العائلى. ونسى اللغة الإنجليزية ذات اللكنة الأمريكية، فتغيّرت نبرة صوته دون تجاوزٍ، وأصبح الحوار بيننا مصريا بامتياز.
إن التغريب لغة وثقافة فى قطاعات، وفئات، وسياقات طبقية واجتماعية بات واقعا مؤلما فى بلدنا، والمؤلم أكثر أن هذا الواقع متصنع ومحض ادعاءٍ، ولا يمكن اعتباره مبدئيا أو أصيلا. هو فى معظم الأحيان حراك اجتماعى، مروق طبقى، أو هزيمة ثقافية تزداد كلما ضعُفت الأمم، الأمر الذى خلد مقولة ابن خلدون العبقرية: «المغلوب مولع بتقليد الغالب».
• • •
الموقف الثانى يتعلق بمشاركتى فى الإعداد لمشروع كتاب، وقد طلب منى تقديم نموذج لفصل من فصول الكتاب، مع مقدمته، وفلسفته، وأهدافه. وبمجرد أن طُلب منى ذلك، تبادر إلى ذهنى مفهوم التغريب فى الثقافة العربية المعاصرة، وكيف تحوّل التغريب من معارك فكرية فى عصر النهضة، وبداية القرن العشرين إلى سلوك ثقافى، واستنساخ تافه للعادات والتقاليد، والطقوس واللغة فى نهاية القرن العشرين وحتى يومنا هذا. المضحك المبكى أن معظم الأشخاص المتظاهرين بالتغريب الثقافى لا يتقنون اللغة أو الثقافة الغربية، فتجد على سبيل المثال فى الساحل «الشرير» سيدة تُصرّ على التحدث مع أولادها بلغة أجنبية، أو على استعمال مصطلحات وتعبيرات، ونمط ملبس وسلوك من لغة وثقافة لا تُتقنها. الأمثلة لا تعد ولا تحصى، وأنا على يقين أن القراء يصادفون هذه المشاهد يوميا فى السنوات الأخيرة.
• • •
الموقف الثالث، يتعلق بموسوعة جديدة صدرت منذ شهور عن دار نشرِ جامعةٍ عربيةٍ بعنوان (موسوعة الاستغراب)، وهو عمل جيد إجمالا، ولكنه لا يمت لفكرة «الاستغراب» بصلة، فقد وجدت أن الموسوعة عبارة عن مداخل تعريفية معلوماتية لظواهر، وبلاد، ومدن، وأشخاص من الغرب. وهذا يختلف عن المنظور الذى اقترحه بعض المفكرين العرب من أمثال حسن حنفى رحمه الله عن مفهوم الاستغراب فى مقابل مفهوم الاستشراق. ولم أفهم لماذا أصرّ القائمون على الموسوعة استعمال مفهوم عميق مثل الاستغراب لموسوعة معلوماتية بسيطة، وقد تذكّرت حينها موقفا مع أستاذ جامعى مصرى درس فى الولايات المتحدة، وعاد إلى الوطن يدرّس مفاهيم الجودة التى كان على أن أجتاز دوراتها عندما كنت معيدا فى جامعة القاهرة. فقد استعمل الأستاذ مواد ومفاهيم غربية لم يعشها أو يستوعبها أثناء إقامته فى الغرب. فكان أحد عناوين محاضراته التدريبية للمتدرّبين من المعيدين والمدرسين «كن كالبومة!». وفى الوقت الذى لم يفهم الحاضرون كيف نكون بوما، ابتسمت وأدركت المفارقة سريعا، ولفتُّ نظر الأستاذ المحاضر على هامش المحاضرة تجنّبا لإحراجه أمام المعيدين. وأخبرته أن هذا العنوان يناسب الثقافة الغربية، حيث إن البومة هى رمز الحكمة، أما فى ثقافتنا العربية، فإن البومة رمز الشؤم! وما توقعته فى هذه اللحظة أن الأستاذ يستعمل مواد مترجمة لا تناسب السياق الثقافى. وعادة ما يتسبب ذلك فى سوء فهم وغموض. الشاهد هنا أن كثرا ممن يكتبون عن الثقافة الغربية، أو يقلدونها، ويحاكون لغتها وثقافتها، لا يفهمونها، وإن كانوا من الذين درسوا أو أقاموا فى الغرب لسنوات.
• • •
ربما لا توجد علاقة مباشرة بين المواقف الثلاثة، ولكنها تتعلق بهوسنا بالغرب، ومركزيّته، والولع بتقليد لغته، وثقافته، وعاداته وتقاليده وأعياده دون سبب وجيه، فى الوقت الذى لا نقلد أو نحاكى القيم الحقيقية التى تميز بها الغرب الحديث، وصنعت حضارته وتقدمه.
لقد عشنا عقودا من تاريخنا الحديث فى ظل علو الغرب وهيمنة قيمه، دون أن نولع بتقليده. وكنا نشعر بالفخر بهويتنا وثقافتنا، ولكن فشل تجربة التحرّر الوطنى بعد الاستعمار، وغياب الرؤية، وسيطرة نظم الاستبداد وحكوماتها، إلى جانب فساد النخبة والطبقات المتنفذة، وتراجع دور المثقف العضوى، وغيرها من الأسباب، قد أدت إلى ما نعيشه من انسحاق ثقافى تجاه كل ما هو غربى أو أمريكى.

يحيى عبدالمبدي محمد أستاذ مشارك بجامعة جورج تاون
التعليقات