مثل معظم المهاجرين الجدد الذين يقيمون فى الولايات المتحدة، واتساقا مع أفكارى وقناعاتى التى كانت تميل فى تلك المرحلة من عمرى إلى التحرر السياسى والليبرالى، ارتبطتُ بأفكار الحزب الديمقراطى وقيمه، وتعرّفت على برامجه وسياساته فى مختلف مجالات الحياة فى المجتمع الأمريكى. وصرت بمرور الوقت أكثر فهما لطبيعة السياسة، ونظام الحكم فى الولايات المتحدة. ومازلت أتذكّر لحظات الحماس الشديد لمجرد احتمال فوز المرشح الديمقراطى (الأسود) فى نوفمبر عام ٢٠٠٨، كما أتذكر جيدا الفرحة الغامرة والاحتفالات الصاخبة التى شاركنى الأصدقاء والزملاء فيها بمجرد إعلان النتائج وتحقق (الحلم). لاسيما أن انتخاب أوباما كان بمثابة نهاية لمرحلة كئيبة من سيطرة المحافظين الجدد على السياسة الأمريكية. كانت آمالى وآمال الكثيرين عريضة لوصول أوباما إلى البيت الأبيض، وقد مرّت سنوات حكمه الأربعة الأولى سريعة دون تحقيق تغيير حقيقى. واعتقدت كما هو شائع فى الثقافة السياسية الأمريكية أن فترة الرئيس الثانية تجعل الرئيس أكثر حرية وجرأة فى اتخاذ القرارات وصنع السياسات. وانتهت سنوات حكم أوباما الثمانية والتغيير الوحيد الذى حدث أن اللون الأبيض قد بدأ يزحف على شعر الرجل، وقد أدركت أن أوباما لم يكن استثناء كما تصورت، وأن الرئيس مهما بلغت قوته، فهو محكوم بآليات ومؤسسات، وهو ما يفسر لاحقا نجاح الشعبوية، وانتخاب ترامب أملا فى التخلص من ثقافة المؤسسات وسيطرتها.
عشت المرحلة الترامبية الأولى غاضبا ومحاولا تجنب السياسة، والابتعاد عنها قدر الإمكان، حتى خسر النزال لصالح الديمقراطى (العجوز) جو بايدن. وقد كانت صدمة الناخبين بأداء بايدن أكبر من صدمتهم بفشل أوباما فى تحقيق تغيير حقيقى. وفى هذه الانتخابات القريبة وحتى فى حال لم يستطع ترامب العودة إلى البيت الأبيض، لا يتوقع الناخبون من المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، بناء على أدائها كنائبة لبايدن، الكثير حال فوزها فى انتخابات الخامس من نوفمبر.
الآن أعود إلى عنوان المقال وموضوعه الرئيس، فقد قررت ألّا أشارك فى أى انتخابات أمريكية مقبلة بأى صورة، وفى مقدمتها التصويت. وسأشرح أسبابى ودوافعى فى الفقرات الآتية:
أولا، تمثل السياسة الخارجية هما كبيرا لى كمصرى عربى مسلم، وهذه السياسة الظالمة والمنحازة والانتهازية فى معظم الأحيان لا تختلف كثيرا بوصول مرشح ديمقراطى أو جمهورى إلى الحكم. فالحزبان لديهما ثوابت وسياسات انتهازية متطرفة خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعالم العربى والإسلامى. وقد صدمنى وقهرنى موقف إدارة بايدن الديمقراطية من الحرب على غزة. وبالتأكيد فإن موقف ترامب لن يكون أقل انحيازا وتطرفا. موقفى الشخصى هنا أنى لا أريد المشاركة والتصويت لشخص يرتكب حماقات وجرائم حرب أو يدعمها، لا أريد أن يكون هذا باسمى وبصوتى.
ثانيا، عادة ما تتملكنى الحيرة تجاه أفكار وبرامج الحزبين، فرغم ميلى للحزب الديمقراطى لم أكن أشعر يوما بأن أفكاره تمثلنى تماما، بل العكس أجد أحيانا أن أفكار الحزب الجمهورى المحافظة اجتماعيا تلائمنى (تتماشى مع أفكارى). إن القضايا الاجتماعية والثقافية التى ينقسم حولها الناخبون الأمريكيون مثل الإجهاض، والدين، والحق فى اقتناء السلاح، والتوجهات الجنسية، قضايا ذات تاريخ طويل، وتراكمات ثقافية لا تشغل المهاجرون الجدد كثيرا.
ثالثا، لا أحد من المرشحين المحتمل فوزهما يمثلنى، ولا أحترمهما. فامتناعى عن التصويت امتناع مبدئى وأخلاقى، لاسيما أنّ فرص المرشحين المستقلين تكاد تكون معدومة أو شبه مستحيلة.
رابعا، نظام الانتخابات غير العادل من وجهة نظرى، القائم على «المجمعات الانتخابية» التى لا تعبر عن إرادة الجماهير تعبيرا حقيقيا، فمن الممكن أن يفوز أحد المرشحين بالانتخابات، وقد حصل على عدد أقل من الأصوات الفعلية على مستوى الولاية، أو المستوى الوطنى. وفى ظنى أن ذلك لا يعبر بصدق عن إرادة الناخبين.
خامسا، إن النظام الحزبى الثنائى وعدم وجود خيارات أخرى يصيب العملية الانتخابية بالركود، فإما المرشح الديمقراطى، أو المرشح الجمهورى. ومع كل انتخاب ينادى بعض المفكرين بضرورة وجود حزب ثالث، أو آلية تتيح الفرصة للمرشحين المستقلين، أو ممن لم يرشحه الحزبان الرئيسان. ولكن هذه الدعوات لا تجد صدى فى النظام السياسى الأمريكى.
سادسا، الفساد واللوبى، والمال السياسى، والمؤسسات والشركات العسكرية يقلل من إمكانية حدوث تغيير بناء على نتائج أى انتخابات سابقة أو قادمة. وكأن موسم الانتخابات هو تمثيلية كبيرة للدعاية والإعلام والمؤتمرات والأغانى والألوان وكأنه تمثيل دقيق للثقافة الاستهلاكية الأمريكية.
لست الوحيد الذى يقرر مقاطعة الانتخابات فى الولايات المتحدة، فهناك مئات الآلاف من المقاطعين لأسباب مختلفة. ويتراوح عدد الذين يقترعون فى الانتخابات الرئاسية حوالى ٦٠٪ فقط من إجمالى من يحق لهم التصويت. وعادة ما يؤثر عدم التصويت على نتائج الانتخابات لصالح مرشح من المرشحين.
ربما يتعجب البعض من مقاطعة انتخابات ديمقراطية تتصف بالنزاهة والشفافية، خاصة إذا ما قورنت بانتخابات كثيرة حول العالم تشوبها التجاوزات والتلاعب بالأصوات والتزوير. والحقيقة أن الأمر بالنسبة لى شخصى للغاية مبعثه الإحباط الشديد، واليأس من واقع السياسة الأمريكية داخليا وخارجيا. إن موقفى من الليبرالية الغربية عموما قد تأثر كثيرا بحجم التناقضات والتحيزات الأيديولوجية والعنصرية التى شهدناها جميعا خلال السنوات الأخيرة، خاصة فى ظل حرب الإبادة والعدوان على غزة. وقد بلغ بى التأثر درجة شعورى أن النخب السياسية الغربية تتصرف وكأن الديمقراطية وقيمها مخلوقة للإنسان الغربى بصفاته الثقافية المعروفة دون بقية البشر.