الاحتفاء بالجسد في الثقافة الغربية - يحيى عبدالمبدي محمد - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاحتفاء بالجسد في الثقافة الغربية

نشر فى : الجمعة 30 أغسطس 2024 - 7:45 م | آخر تحديث : الجمعة 30 أغسطس 2024 - 7:45 م

لم تصدمنى مشاهد حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية فى باريس مساء السادس والعشرين من الشهر الماضى كما صدمت كثيرين حول العالم، فنخبة فرنسا العلمانية الراديكالية التى تسيطر على المشهد الفكرى والثقافى منذ عصر التنوير، لا تدع فرصة أو مناسبة إلا وتريد إثبات أن وجه فرنسا تنويرى وحداثى ومتحرر وعقلانى وعلمانى، وأن هويتها اللادينية راسخة لن تهزمها رجعية اليمين المحلى أو ثقافة المهاجرين المحافظة وإن كانوا يمثلون كتلة كبيرة ومتزايدة من الجماهير.

لا تعد فرنسا استثناء فى الغرب، ولكنها تعد أكثرها تشددا وراديكالية فيما يتعلق بتبنى وتطبيق القيم الحداثية الليبرالية وفصل الدين وطقوسه ورموزه عن الحياة العامة. إن قيم التحرر على اختلاف درجاتها تزداد فى المجتمعات الغربية منذ عصر التنوير عقدا بعد عقد بصورة مدهشة، وخاصة منذ عقد ستينيات القرن الماضى عندما شهدت الثقافة الغربية والأمريكية هذه المرة تحديدا ما يعرف بالثورة الجنسية، وما ارتبط بها من تحرر وتطرف فى الاحتفاء بالجسد، والدعوة إلى قبول العلاقات الجنسية على اختلاف أشكالها وألوانها، والنزوع إلى الشهوانية وإبراز مفاتن الجسد. وأصبحت القيم المحافظة قيما رجعية تحد من حرية الجسد وحق الإنسان فى الاحتفاء به. إن إلقاء نظرة سريعة على ملابس النساء فى الغرب ما قبل الستينيات وبعدها هو تعبير واضح على التغير السريع الذى شهده العالم فى العقود الأخيرة.

ومع سيطرة نخب مؤدلجة على المشهد الثقافى فى الغرب كان الربط التلقائى بين الفن والعلم والتنوير والتقدم والرقى من جهة وبين حرية الإنسان فى الاحتفاء بجسده من جهة أخرى. وتلك مغالطة واضحة فرضتها النخب الليبرالية الاستعلائية فى الغرب. ورغم أن الاحتفاء يعد لفظا ومعنى إيجابيا، فإن الاحتفاء بالجسد قد تطرف فى المجتمعات الغربية حتى صار افتتانا وابتذالا. لقد تجاوز الاحتفاء بالجسد حدود الحرية ليتحول بمرور الوقت إلى تسليع وتنافس على إبراز مفاتن الجسد، ناهيك عن استغلاله فى تحقيق مكاسب مادية ومعنوية. لقد صار الابتذال والهوس بإبراز مفاتنه والحرص على الإطلالات الجريئة فى المهرجانات الفنية والمناسبات الاجتماعية وكأنه أصبح شرطا للنجاح وخلطة سرية للوجود والانتشار وتحقيق المكاسب خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى.

إن قيم المجتمعات الغربية عندما يتعلق الأمر بالجسد شهدت تحولات تختلف عن نظيرتها فى الشرق والتى لم تكن لوقت قريب تحتفى بالمظهر والشكل والافتتان بالجسد على النحو الذى نعايشه الآن. يرى البعض أن المجتمعات الغربية فى أصلها مادية وتميل إلى العرى وتنزع إلى الشهوانية، وعادة ما كانت تماثيل الإغريق والرومان العارية أو شبه العارية التى تبرز عضلات الرجال ومفاتن النساء مثارا للدهشة عندما نقارنها بتماثيل الحضارات الأخرى فى المشرق أو الجنوب.

ربما يقول قائل إن بعض القبائل التقليدية فى إفريقيا وأستراليا وأمريكا الجنوبية تعيش حياتها عارية أو أن اللباس التقليدى للنساء فى الهند وغيرها شبه عار. وهذا صحيح، ولكنه ليس احتفاء أو افتتانا أو محاولة لإبراز المفاتن والهوس بالجسد، إنه نمط ثقافى له خلفياته وسياقه الأنثروبولوجى الذى يمكن مناقشته فى مقال آخر. 

أما فى أوروبا وبعد انتشار المسيحية فقد تراجعت مظاهر الاحتفاء بالجسد وعاشت معظم المجتمعات الغربية المسيحية الناشئة أجواء محافظة يمكن رصدها فى الصور والتماثيل وسائر أنواع الفنون والآداب الى سبقت عصر النهضة. وحتى مع التحولات الكبرى فى عصر النهضة كانت الأخلاق المسيحية فى العصر الفيكتورى محافظة إلى حد كبير.

والأمر فى الثقافة الغربية لا يتوقف عند المرأة، فهناك احتفاء للرجال بأجسادهم، بل أصبحت ممارسة الرياضة والذهاب إلى الصالات الرياضية هدفها الشكل والمظهر وإثارة إعجاب الجنس الآخر أكثر من الحفاظ على الجسد والصحة.

الاحتفاء بالجسد والافتتان به والجرأة فى إبراز هذه المفاتن فى عالمنا المعاصر صار واقعا جعل من النساء والرجال سلعة ومادة قللت كثيرا من قيمة الإنسان وجوهره. وأصبح الناس نتيجة استمراء هذا الواقع وقدرة مروجى هذه السلوكيات على التأثير فى ثقافة المجتمع والرأى العام يعتقدون أن هذا الواقع طبيعى وقديم موجود منذ الأزل، مما جعل الناس يتنافسون فى الاهتمام بالشكل والمظهر والإطلالة، والمكياج، وعمليات التجميل على اختلاف أنواعها. وبالتأكيد يزداد التنافس بين المشاهير والأثرياء نساء ورجالا أكثر من الفئات الأخرى.

وفى ظل هيمنة نخب الحداثة على المجتمعات الغربية، بات الاختلاف أو حتى النقاش حول هذه القيم خطوطا حمراء، لا يمكن المساس بها أو التشكيك فيها، فالاحتفاء بالجسد هو حرية مطلقة للإنسان، فهو يملك جسده، ولا يمكن لأى فرد أو مجتمع أو دولة التدخل فى خياراته. ولكن هذا الاحتفاء والحرية من وجهة نظرى نسبية، تختلف من عصر لآخر، ومن ثقافة لأخرى. ولا يمكن لفريق أن يدعى أن أفكاره هى نهاية التاريخ وقمة ما بلغه الإنسان من حضارة ورقى.

وبالطبع يوجد أناس محافظون دينيا وأخلاقيا فى الغرب، ولكنهم خاضعون لثقافة النخب المتحررة التى سيطرت على المشهد الثقافى منذ زمن. وعادة ما يواجه هؤلاء صعوبات فى فرض قيمهم أو مطالبة الدولة ومؤسساتها بتبنيها عامة مملوكة، فعلى سبيل المثال يضطر البعض إلى إرسال أبنائه لمدارس خاصة أو تدريسهم المقررات الدراسية فى البيت.

ليس المقصود هنا الدعوة إلى وضع حدود على حرية الإنسان فيما يرتديه، فإيمانى بحرية الإنسان فى خياراته الشخصية راسخة، وليس المقصود الخجل من الجسد أو عدم تقديره، ولكن المقصود الدعوة إلى الاحتفاء بالجوهر والقيمة بدلا من الافتتان بالشكل والمظهر الخادعين. وقد قال نبينا الكريم (ص): «إِن الله لا ينظر إِلى أجسامكم، ولا إِلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

لطالما قامت النخب الغربية بالتعالى على ثقافات الآخرين وفرض مفاهيمها الخاصة عن الحداثة والحرية وحقوق الإنسان على العالم. وفى المقابل ما زالت المجتمعات التابعة ومنها المجتمعات العربية تنظر بإعجاب وولع تجاه الثقافة الغربية، وبالتالى فإن ما يحدث فى الغرب من احتفاء بالجسد والافتتان بالمظهر والشكل يمكن أن ينسحب فى السنوات الأخيرة على واقع الشرق أو على نخبه دون تعميم.

 

 

 

يحيى عبدالمبدي محمد أستاذ مشارك بجامعة جورج تاون
التعليقات