لماذا انسحبت بريطانيا من هونج كونج، وانسحبت البرتغال من ماكاو، ولماذا تحتفظ إسبانيا بمدينتى سبتة ومليلية فى شمال المغرب؟.
فى عام1997 طوى العلم الإنجليزى فى هونج كونج وحمله آخر حاكم بريطانى إلى لندن. وهكذا حدث فى ماكاو بعد نحو 500 عام من الاحتلال البرتغالى عندما طوى علم البرتغال وحمله الرئيس البرتغالى نفسه إلى لشبونة.
انتهى التاريخ البريطانى فى هونج كونج. ولكن هونج كونج الجغرافيا مستمرة جزءا من الصين.
وانتهى التاريخ البرتغالى فى ماكاو، ولكن ماكاو الجغرافيا مستمرة ايضا جزءا من الصين.ولكن التاريخ لم ينته فى جبل طارق الذى تحتله بريطانيا. وهو لم ينته كذلك فى سبتة ومليلية اللتين تحتلهما إسبانيا منذ عام 1415.
جاء البرتغاليون إلى ماكاو، باسم الكاثوليكية، ولكن شهرة ماكاو اليوم ليس فى كنائسها ولكن فى كازينوهاتها وفى أندية القمار وفى علب الليل المزدهرة فيها.
وجاء جيرانهم الإسبان إلى شمال المغرب باسم الكاثوليكية أيضا، وبهدف قطع الامدادات الاسلامية عن غرناطة.. والآن وبعد مرور أكثر من 900 سنة على خروج العرب من غرناطة لا تزال إسبانيا تحتفظ بسبتة ومليلية.
وهناك مناطق عديدة أخرى فى العالم تخوض صراعا بين هويتها الجغرافية الذاتية وهويتها التاريخية المرتبطة بذاتية المستعمر الأجنبى، وخاصة الجزر المتناثرة فى المحيط الهادى وفى البحر الكاريبى والمحيط الأطلسى.
ومنها: ساموا (الأمريكية) وأنغويلا وبرمودا وجزيرة فرجين (البريطانية) وفرجين (الأمريكية) وجزر الفوكلاند البريطانية وغوام الأمريكية ومونت سيرا وكاليدونيا الجديدة وسانت هيلانة.
وعندما احتلت البرتغال مدنية (أو جيب) ماكاو فى عام 1557، كان التنافس على أشده بين الدولتين البحريتين الكاثوليكيتين البرتغال وإسبانيا. فتدخل البابا وسيطا بينهما. وكانت معاهدة «تورداسيلس» فى عام 1494 التى رسمت خطوط السيادة لكل منهما فى المحيط الأطلسى، ثم فى المحيط الهادى.
وصلت إسبانيا إلى الفلبين (سميت كذلك نسبة إلى الملك الاسبانى فيليب) وسيطرت على هذا الارخبيل بعد أن تغلبت على المسلمين من أهل البلاد فى مدينة «امان الله» والتى أصبحت تعرف فيما بعد باسم مانيلا، تحويرا لاسمها الأصلى.
إذا كان هدف كل من الدولتين إسبانيا والبرتغال استعماريا توسعيا، فان هدف البابا كان نشر المسيحية. تم تحقيق الهدف البابوى بنجاح كبير فى أمريكا اللاتينية التى تعتبر اليوم الخزان البشرى للكاثوليكية؛ ولكن هذا الهدف فشل فى جنوب شرق آسيا، وخاصة فى الصين واليابان.
نجح الإسبان فى عزل المسلمين فى الفلبين ومن ثم فى تنصير بقية أهلها الذين لم يكونوا يؤمنون بأى دين. أما البرتغاليون فقد جعلوا من ماكاو جسرا تجاريا بين الصين واليابان. كانت الصين تنتج الحرير والذهب وهو ما كانت اليابان فى حاجة إليه. وكانت اليابان تنتج الفضة التى كانت مفقودة فى الصين.
فتولى البرتغاليون دور الوسيط التجارى بين الصين واليابان وحققوا بذلك أرباحا كبيرة. ومن خلال عمليات التبادل التجارى استطاعوا التبشير بالمسيحية فى اليابان، حتى بلغ عدد المسيحيين اليابانيين 150 ألفا.
أثار هذا النجاح الذى قام به المبشرون الجزويت (المستقلين عن سلطة البابا) غيرة المبشرين الفرنسيسكان فى الفلبين التابعين لسلطة البابا. فتوجه هؤلاء إلى اليابان فى عملية تبشيرية حماسية مباشرة ــ وليس تحت المظلة التجارية ــ الأمر الذى أثار قلق السلطات اليابانية فطردت فى عام 1582 المبشرين الجزويت والفرنسيسكان معا ومعهم كل الذين اعتنقوا المسيحية من اليابانيين. إلا أن بعضهم استطاع الهرب والتخفى.
ولكن بين عامى 1614 و1650 اعتقل معظمهم فعذبوا وأعدم منهم 2100 مؤمن، بينهم 71 من الجزويت غير اليابانيين. أدى هذا الأمر إلى انغلاق اليابان دينيا إلى أن اضطرت على يد ضابط البحرية الأمريكى ماثيو بيرى فى عام 1865 إلى الانفتاح على الغرب ثقافة ودينا. فبنى الفرنسيون كنيسة كاثوليكية فوق تلة مشرفة على ناكازاكى لا تزال قائمة حتى اليوم. وبعد الحرب العالمية الثانية فتحت اليابان أبوابها أمام كل المبشرين وخاصة الانجيليين الذين تقاطروا عليها من مختلف كنائس الولايات المتحدة، على النحو الذى تشهده اليوم الدول الإسلامية الخمس فى آسيا الوسطى، بعد استقلالها إثر تفكك الاتحاد السوفييتى السابق.
أما حركة التبشير من ماكاو باتجاه الصين فقد كانت أقل نجاحا. حتى إن المؤرخ البريطانى دافيد هاو كان يقول «إن تحول الصينى إلى المسيحية أشبه ما يكون بتبييض بشرة الحبشى». لقد انطلق مبشرون مغامرون من ماكاو إلى جنوبى الصين أمثال ميشال رويغيارى وماثيو ريتشى. واستطاع هذا الأخير أن ينقل إلى الصين العلوم الأوروبية الحديثة فى الرياضيات والفلك والبناء والصناعة متخذا من هذه العلوم مدخلا للتبشير بالمسيحية.
ولكن فى الوقت الذى كانت هذه العملية التبشيرية تتواصل ببطء، ولكن بعمق، قامت بريطانيا بعمل عسكرى ضد الصين، ووصلت القوات البريطانية بقيادة جورج ماك كارتنى فى عام 1793 حتى وصلت إلى بيجينغ ذاتها، الأمر الذى حمل الصينيين على ربط التبشير بالاستعمار، وبالتالى على استيعاب العلوم الحديثة ورفض الدين الجديد. كان الضابط البريطانى جورج أنسون أول من استخدم انطلاقا من مستعمرة هونج كونج التى أقامتها بريطانيا فى عام 1843 دبلوماسية الزوارق المسلحة ضد الصين.
وهى الدبلوماسية التى قضت بغطرستها على أحلام المبشرين الجزويت والفرنسيسكان معا. ولم يتغير هذا الوضع الا فى مطلع القرن العشرين حيث استأنفت البعثات التبشيرية من مختلف الكنائس جهودها وتمكنت من اختراق الجدار البوذى والكونفوشى.
إلا أن السلطات الصينية ــ وكذلك اليابانية ــ تنظر بعين الريبة والقلق إلى هذا النجاح المحدود وتتعامل معه على أنه محاولة لضرب وحدة المجتمع وتناسقه العقدى.
لعبت المدينتان ماكاو وهونج كونج رأس جسر لترويج المخدرات فى الصين والتى بقى الاتجار بها شرعيا حتى عام 1947. وكذلك لترويج القمار والدعارة (التى رخصت منذ عام 1930).
واليوم بعد أن استعادت الصين ماكاو، لم يعد هذا الحدث يشكل محطة تاريخية أو عنوانا لمرحلة جديدة، كما جرى عندما استرجعت هونغ كونغ. هذه المرة لم يعم الفرح الصينى، ولم تحزن البرتغال، ذلك أنه منذ سقوط الرئيس البرتغالى الجنرال سالازار فى عام1974 أعادت البرتغال مدينة ماكاو إلى السيادة الصينية واحتفظت لنفسها بالادارة المدنية فقط.
أليس غريبا أنه فى الوقت الذى تتم فيه تصفية هذه الجيوب الاستعمارية فى الشرق الأقصى تصر إسبانيا على الاحتفاط بمدينتى سبتة ومليلة فى شمال المغرب وكأن حرب الأندلس لم تنته؟.
على أن استمرار جبل طارق تحت السيادة البريطانية يعنى استمرار سبتة ومليلية المغربيتين تحت السيادة الإسبانية. فإسبانيا التى احتلت هذه الجيوب العربية فى شمال المغرب فى عام1415 أى قبل سقوط غرناطة، ترفض الانسحاب منهما ما لم تسترجع جبل طارق من بريطانيا.
ولكن إذا كانت ماكاو وقبلها هونغ كونغ قد عادتا إلى جغرافيتيهما فى حضن الوطن الأم الصين، فان ثمة مناطق عديدة يدخلها الفقر إلى أن تجعل من تاريخها كمستعمرة، جغرافية وطنية. فقد قامت فى جزر القمر مثلا حركة تطالب بعودة الاستعمار الفرنسى اليها.
ما كانت جزر القمر لتؤثر الاستعمار الفرنسى على السيادة الوطنية، وما كانت إسبانيا لتستمر فى الاحتلال الاستيطانى لسبتة ومليلية لو كان العالم العربى قوة مرهوبة.. ولكنه بسبب انقساماته يبدو مجرد قوة موهومة!!.