إذا الملح فسد - صحافة عربية - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 1:07 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إذا الملح فسد

نشر فى : الثلاثاء 22 سبتمبر 2020 - 9:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 22 سبتمبر 2020 - 9:40 م

نشرت جريدة الجريدة الكويتية مقالا للكاتب حمزة عليان... نعرض منه ما يلى:
الروايات عن الملح لا تنتهى عند معرفة أهميته وقوته فى حضارات الشعوب، فعندما بلغت الإمبراطورية البريطانية ذروتها، بات ملح «ليفربول» أو ملح الإمبراطورية بأسرها منتج رفاهية اشتهر فى جميع أرجاء العالم.
وبما أننا دخلنا فى عالم الملح فسيكون مفيدا التنبيه إلى أن أوجه استخداماته وصلت إلى أربعة عشر ألف طريقة! لكن ليس المهم هذا بل المهم أننى استوحيت فكرة المقال من افتتاحية «الجريدة» يوم 30 أغسطس 2020 الماضى وكانت بعنوان «من يصلح الملح إذا الملح فسد؟» فى إشارة إلى العلاقة الترابطية بين صلاح الحكم ودرجة انتشار الفساد وكيفية حماية الديمقراطية من أهلها.
سنذهب بالموضوع إلى وجهة مختلفة لا علاقة لها بالكويت ولا بالصحة والتغذية وارتفاع ضغط الدم أو هبوطه بل بما تعنيه هذه المادة فى تاريخ الحضارات والحروب وما بينهما.
صحيح أن الملح له معزة خاصة عند الآلهة، حيث يعمد اليهود ليلة يوم الجمعة إلى تغميس خبز السبت بالملح، فالخبز عند اليهودية هو رمز الطعام الذى يعتبر نعمة من الله، وتغميسه بالملح يحفظه ويحفظ معه الاتفاق المعقود بين الله وبين شعبه المختار! وفى الإسلام كما اليهودية يستخدم لتوثيق الصفقات والعهود، كذلك عند المسيحية وصلته «بالحكمة»، فالكنيسة الكاثوليكية لا تكتفى بتقديم الماء المقدس، بل «بالملح المقدس»، وغالبا ما يتم الجمع بين الخبز والملح، لكنه فى الوقت نفسه ارتبط بالخصوبة فصغار الأسماك التى تعيش فى مياه البحر المالحة تفوق من حيث العدد، صغار الحيوانات التى تعيش على اليابسة!
وجدت أن كتاب، مارك كورلانسكى، «الملح تاريخ عالمى» الصادر عن دار الساقى فى بيروت والمترجم من قبل مركز البابطين هو من المراجع النادرة التى تناولت هذا الموضوع.
لم نكن نعلم مثلا مدى أهمية الملح فى الحروب العسكرية، ففى ظل غياب هذه المادة، تصبح الحرب وضعا لا يطاق، فعند انسحاب نابليون من روسيا لقى آلاف الجنود حتفهم بسبب إصابات بسيطة من جراء افتقار الجيش إلى الملح الذى يستخدم كمطهر للجروح، ولم يكن ضروريا كدواء أو كحصة غذائية للجنود، بل استخدم لتغذية أحصنة الفرسان التى تنقل المؤن والأسلحة وقطعان المواشى التى تذبح لتغذية الجنود.
يحفل تاريخ الأمريكتين بالحروب المستمرة حول الملح، خصوصا أن الملح ومن سيطر عليه نعم بالنفوذ والسلطة، وهذا الوضع كان موجودا قبل وصول الأوروبيين وبقى واقعا حتى بعد الحرب الأمريكية الأهلية 1861.
من جانب آخر أكثر تشويقا وأهمية، كان الاقتصاد الهندى بالنسبة إلى بريطانيا العظمى هو الجائزة الكبرى التى ستعزز ثرواتها، وكانت الصناعة مكرسة لصالحها وفى قلبها ثروة الملح التى تدار وفقا لاحتياجاتها وتملك مخزونا جاهزا وقليل الكلفة.
كان غاندى وراء تأسيس المجلس الوطنى الهندى الذى أصبح القوة المحركة للاستقلال عن الإنكليز، قاد «حملة الملح» سنة 1929 بعد اندلاع الثورة فى «أوريسا»، وخاطب نائب الحكام اللورد «أروين» معلنا تجاهل قوانين الملح، واعتبر الضريبة التى فرضوها جائرة من وجهة نظر الفقراء ثم سار مع أتباعه عشرات الأميال للوصول إلى شاطئ البحر فى «داندى» ثم راحوا يشرعون فى كشط الملح، وكانت وقفته ضد الاحتكار البريطانى للملح ذات أثر فعال، وبعد 25 يوما من المسيرة، قام بالفعل بخرق قانون الملح بالتقاطه قطعة من قشرة الملح فى «داندى»، وتحولت دعوته إلى ثورة وطنية شاع فيها «جمع الملح» وبيعه فى الشوارع، وصار معظم الشعب الهندى فى سبيله لإنتاج الملح، وفى عام 1931 استجاب اللورد أروين ووقع اتفاقية مع غاندى «سمح فيها للهنود القاطنين على طول الساحل بجمع الملح واستهلاكه».
ويبدو أن الملح سيترك أثره فى شعوب المنطقة، وهذه المرة عن طريق «البحر الميت» الذى يشكل أعجوبة طبيعية أطلق عليه العبرانيون اسم «نهر الملح»!
فقد كان هذا البحر ملائما لنقل الملح أكثر منه لإنتاجه والمنطقة مشهورة «باللعنات» وأبرزها تلك التى قضت بتدمير مدينتى «سدوم» و«عامورة» وأهالى تلك المدينتين كانوا من عمال الملح.
يشير الكتاب ومؤلفه إلى أن تيودور هرتزل الذى كتب عن عودة اليهود إلى أرضهم، وفى سياق تصوره لجدوى قيام دولة يهودية، افترض أن البحر الميت سيشكل واحدا من الموارد الأكثر أهمية بالنسبة إلى الدولة الجديدة التى ستعمد إلى استخراج الثروات المعدنية منه.
لقد تحققت نبوءة هرتزل التى نشرها فى رواية صدرت عام 1902 بعنوان «الأرض القديمة الجديدة» فقد رسم تصورا لزيارة يقوم بها إلى دولة إسرائيل الجديدة فى عام 1933 ليجد اليهود يستغلون ثروات البحر الميت المعدنية ويحولون الصحراء إلى أرض خضراء مروية ويعيشون فى مزراع جماعية تصدر إلى أوروبا، وتنبأ بأن العرب سيرحبون باليهود أشد ترحيب! لما سيحمله هؤلاء معهم إلى المنطقة من تطور اقتصادى!
من عجائب الدنيا «الثمانى» أن نرى اليوم نبوءة هرتزل قد تحققت على أرض الواقع أملا فى ازدهار اقتصادى سيعم المنطقة الخليجية على يد «بنيامين نتياهو» راعى السلام والازدهار!

التعليقات