كان السؤال الذى دار فى عقول كثير من القيادات السياسية فى الدول الغربية، وخاصة فى الولايات المتحدة، بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، والتى راح ضحيتها أقل قليلا من ثلاثة آلاف شخص بعد هجوم طائرتين مختطفتين على برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك، واكتشاف أن من قادوا الطائرتين ومن سيطروا عليها كانوا جميعا من العرب، وأغلبهم شبان من دول الخليج التى ربطتها، ومازالت تربطها بالدول الغربية، علاقات وثيقة تقترب من التحالف هو: لماذا يكرهوننا؟ ومع الموقف المراوغ الذى اتخذته الحكومات الغربية وإعلامها من طوفان الأقصى، يحاول هذا المقال أن يستكشف أثر هذا الموقف الغربى على صورة الغرب لدى الشباب العربى الذى خرج فى مظاهرات عارمة فى العديد من الدول العربية تأييدا للشعب الفلسطينى. سأحاول بقدر ما أستطيع أن أتفهم موقف الحكومات الغربية وإعلامها، وأستكشف مدى توافقه مع رؤية قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين الغربيين لنفس الأحداث.
طبعا المصادر العلمية الضرورية للإجابة على هذا السؤال، فى صورة استطلاعات الرأى مثلا، ليست متوافرة، ولكن أهمية السؤال تدعونى إلى طرح استنتاجات سريعة استنادا لمتابعتى للمواقف الرسمية ولبعض القنوات الإعلامية الغربية.
بداية، أود التأكيد على أنى لست من هؤلاء الذين يتخذون موقفا رافضا للحضارة الغربية، وحتى وإن اتخذت مواقف ناقدة لبعض تجلياتها، فلا أختلف فى ذلك كثيرا عن المثقفين الغربيين أنفسهم الذين لهم نفس الموقف، بل على العكس ربما يكون ما أطرحه هو مقدمة للدعوة لتوثيق العلاقات مع هؤلاء الغربيين الذين أشاركهم أفكارهم.
الموقف الغربى الرسمى كما عبر عنه قادة الحكومات الغربية، سواء فى الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبى، هو أن ما جرى فى السابع من أكتوبر هو هجوم استهدف سكانا مدنيين قامت به «حركة إرهابية» هى منظمة حماس، وأنه تخلى عن القواعد «المتحضرة» فى العمل العسكرى، ونظرا لأن ضحايا هذا الهجوم هم مواطنات ومواطنو وجنود دولة إسرائيل فإن من حقها وبموجب القانون الدولى أن تدافع عن نفسها، حتى لو وصل دفاعها إلى اجتثاث حركة حماس، وهو أمر مطلوب، لأن حماس لا تمثل الشعب الفلسطينى، فهناك السلطة الفلسطينية التى أدانت الهجوم على سكان مدنيين. وعندما اتضح أن رد الفعل الإسرائيلى قد تجاوز قواعد القانون الدولى، وامتد إلى فرض عقاب جماعى على الشعب الفلسطينى «المدنى»، نصحت هذه الحكومات إسرائيل بأن تلتزم بقوانين الحرب والقانون الدولى الإنسانى، وأن تسهل وصول المعونات إليه فى قطاع غزة.
لماذا يسبب هذا الموقف الغربى سخط قطاعات واسعة من العرب كما تكشف ذلك تعليقات الصحف وقنوات التلفزيون التى تتمتع بقدر معقول من الحرية، والتصريحات على وسائل التواصل الاجتماعى، وهتافات المتظاهرين والمتظاهرات فى المدن العربية يوم الجمعة الماضى؟. هل ذاكرة الحكومات الغربية قصيرة إلى هذا الحد؟. تذكر فقط ما جرى فى 7 أكتوبر، ولكن اعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال الإسرائيلية على المواطنين الفلسطينيين فى الضفة الغربية، والتى كانت تتكرر يوميا فى الفترة الأخيرة خصوصا حول المسجد الأقصى وفى جنين، قد سقطت من الذاكرة الغربية، والحصار الصارم حول غزة منذ سبعة عشر عاما قد ذواه الزمان، وحروب إسرائيل الأربع السابقة على غزة (2006، 2012، 2014، 2022) والتى راح ضحيتها آلاف من الأطفال والنساء وكبار السن فضلا عن الشباب هى أمور طواها النسيان، لماذا توقفت كل المؤسسات التشريعية فى هذه الدول عن إدانة هذه الاعتداءات المتكررة على مدنيات ومدنيين فلسطينيين؟ ولماذا اعترضت على إدانتها فى المحافل الدولية وخصوصا فى مجلس الأمن فى الأمم المتحدة؟ ولماذا تؤيد الحرب التى تشنها إسرائيل على غزة بدعوى أنها دفاع عن النفس فى مواجهة منظمة إرهابية بينما من الواضح لكل من له بصر وبصيرة أن حماس ليست جيشا نظاميا يتواجد فى معسكرات تستهدفها آلة الحرب الإسرائيلية، وإنما هى حركة سياسية لها جناحها المسلح بين آلاف من الفلسطينيات والفلسطينيين فى غزة، بينما يوجد فى القطاع أكثر من مليونى مواطن منهم أطفال ونساء وشباب ومتقدمون فى السن، ومع استبعاد الأطفال ومنهم بكل تأكيد رضع، فلا يمكن القول بأنهم جميعا أو فى غالبيتهم ينتمون إلى حماس سواء فى تنظيماتها السياسية أو جناحها العسكرى، وحتى بالاستناد إلى آخر انتخابات جرت فى غزة فى سنة 2006، كان أكثر من نصف الناخبين ينتمون إلى منظمات سياسية أخرى كانت أكبرها فتح التى هى عماد السلطة الوطنية الفلسطينية.
هذه القراءة السريعة للواقع السياسى الفلسطينى تكشف أن الحرب التى تشنها إسرائيل على حماس هى بالضرورة حرب على الشعب الفلسطينى فى غزة، فلا يمكن لا للطائرات الإسرائيلية ولا للصواريخ التى تطلقها أو قذائف الدبابات التى ستمطر بها غزة أن تفرق بين مناضلى حماس ومئات الآلاف الآخرين من الفلسطينيين، والدلائل على ذلك متاحة لمن يشاهد تقارير مراسلى التلفزيون، وتقارير منظمات الأمم المتحدة أو تقارير المنظمات غير الحكومية العاملة فى غزة وفى مقدمتها مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية، فضلا عن منظمة العفو الدولية، وبكل تأكيد ممثلو هذه الحكومات فى غزة يعرفون هذه الحقائق.
سوف يدافع ممثلو هذه الحكومات عن مواقفها هذه قائلين إنهم ليسوا غافلين عن معاناة الشعب الفلسطينى، ولذلك يطالبون بتسهيل وصول المعونات له، ولكنهم يقومون بدور الوكيل عن إسرائيل عندما يطالبون حكومات عربية، وفى مقدمتها الحكومتان المصرية والأردنية بأن تتولى استقبال اللاجئين الفلسطينيين، وتسهل بذلك على إسرائيل ما يدعو له قادتها المتطرفون من ضرورة ترحيل هؤلاء الفلسطينيين إلى دول مجاورة ليكون لهم وطنهم البديل هناك، مع استعدادهم لتقديم المعونات المالية للحكومات التى تقبل ذلك. بعبارة أخرى، هم يتواطئون مع إسرائيل فى انتهاكها لقواعد القانون الدولى الذى يدافعون عنه ليس فقط بعدوانها على السكان المدنيين وحرمانهم من أبسط ضرورات الحياة، ولكن حتى بتغيير الطابع الديموغرافى للأراضى المحتلة، وهو ما ينهى عنه القانون الدولى للحرب، واتفاقات جنيف بالنسبة لمعاملة السكان المدنيين تحت الاحتلال. وعندما لا تلقى دعوات التهجير هذه آذانا صاغية من تلك الحكومات العربية، ينصاعون لإرادة الحكومة الإسرائيلية التى ترفض فى حقيقة الأمر السماح بمرور المعونات والتوقف عن الإغارة على الأماكن التى ستمر من خلالها، ويلقون اللوم من خلال إعلامهم على الحكومة المصرية مثلا مدعين أنها السبب فى عدم وصول المعونات لمن يستحقها من الشعب الفلسطينى.
بل الأخطر من ذلك كله أنهم يتجاهلون النتائج التى ستترتب على مضى آلة الحرب الإسرائيلية فى تنفيذ مخططها المعروف بشن حرب برية تنتهى باحتلال غزة وإدارتها مباشرة من جانب إسرائيل أو دول وقوات حليفة، وهو مخطط يبدو ضربا من الجنون، ليس فقط للثمن الإنسانى الفادح الذى سيدفعه الجانبان الفلسطينى والإسرائيلى على السواء، فلن يكون احتلال غزة نزهة للقوات الإسرائيلية كما أدرك قادتها فى الحروب السابقة وكما تعلموا من تجربتهم فى حكم غزة، واضطروا للخروج منها فى 2005، ولكن مثل هذا الإجراء الأحمق يمكن أن يشعل حربا إقليمية بدخول أطراف أخرى عربية وغير عربية، ويهدد مصالح هذه الدول ذاتها، ومع ذلك تستسلم له، ولا تقاومه، ويكتفى بعض قادتها مثل الرئيس بايدن بدعوة الحكومة الإسرائيلية بـألا يلتهمها الغضب، بأن تفرط فى رد فعلها باحتلال غزة الذى يحذر منه بعض أصدقاء إسرائيل فى الولايات المتحدة، ثم يطلب لها فى نفس الوقت معونة عسكرية تقدر بعشرة مليارات من الدولارات، وهو ما سيشجعها على المضى فى تنفيذ مخططها هذا.
إعلام المؤسسة الحاكمة فى الدول الغربية
لا أظن أن الحكومات الغربية بمثل هذه المواقف التى تكاد تصل إلى حد التواطؤ مع إسرائيل فى شن حربها على الشعب الفلسطينى سوف تكسب مودة الشعوب العربية، فبينما كان البعض يتوقع أن يقوم الإعلام الغربى، والذى يغطى العالم كله، بدور مخفف من هذا التحيز الصارخ، فإن تغطيته للشأن العربى ــ الإسرائيلى عموما تغذى هذه الصورة السلبية عن العدالة الغربية ومدى اتساق مواقف الحكومات الغربية مع مبادئ حقوق الإنسان التى تدعى التزامها بها وتحكم على الحكومات الأخرى على أساس مدى اتساق سلوكها معها. ودور الإعلام أخطر فى هذا المجال، فبينما لا تصل الشعوب العربية إلى بيانات وتصريحات الحكومات الغربية وقد لا يفكر فى ذلك غير الأشخاص المتخصصين فى العلاقات الدولية، تشاهد الشعوب العربية فى المنازل والمقاهى القنوات الغربية المتاحة بالعربية أو باللغات الأخرى التى يجيدونها وخصوصا القنوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية.
لا يتسع المقام هنا لعرض أمثلة تفصيلية لتحيز هذه القنوات والصحف ليس فقط من خلال الحوارات التى تجريها ومقالات الرأى فيها، ولكن تكفى مقارنة الوقت المخصص لشرح وجهة النظر الإسرائيلية وذلك المخصص لشرح وجهة النظر الفلسطينية، أو ذلك الذى تحظى به تقارير المعاناة من جانب إسرائيليين إلى جانب تقارير آثار العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى. بل ولقد خبرت بنفسى وجهة النظر الأحادية فى طرح بعض الموضوعات من جانب هذه الأدوات الإعلامية، فقد سألنى مراسلون لقنوات وصحف مشهورة عالميا حول سبب رفض الحكومة المصرية لهجرة الفلسطينيين أو إعاقتها مرور المعونات لقطاع غزة من خلال معبر رفح. هل الطبيعى أن يغادر الفلسطينيون والفلسطينيات وطنهم؟ وألا تعود صعوبات إيصال المعونات لرفض إسرائيل ذلك وربطها المعونات بتحرير الأسرى لدى حماس؟ ثم تعمدها وضع الصعوبات فى طريق مرور المعونات بالإغارة على الجانب الفلسطينى من معبر رفح أربع مرات حتى كتابة هذه السطور. لا أظن أن مراسلى هذه الصحف والقنوات الشهيرة يجهلون ذلك، ولكن تلك رغبة إدارة هذه المؤسسات أن تظهر إسرائيل فى صورة البرىء وأن يكون المتهم دائما عربيا.
لابد أن أنبه أن هذه القنوات الإعلامية على الرغم من تحيزها الثقافى والسياسى ضد العرب، فهى تتميز أيضا بالتنوع، وأن هناك أصواتا أمينة ومنصفة تجد طريقها على صفحات بعض هذه الجرائد وبين مراسلى ومقدمى البرامج فى بعض القنوات التلفزيونية وخصوصا الأمريكية والبريطانية، وأقل من ذلك بكثير فى القنوات الفرنسية.
الرأى العام الغربى وصورة الشعب الفلسطينى
المدهش فى الأمر أن هذا الموقف المشترك بين الحكومات والإعلام الغربى الذى أصفه بأنه سواء كان حكوميا أو خاصا، فهو إعلام المؤسسة الحاكمة، لا يلقى قبولا من بعض قطاعات الرأى العام فى هذه الدول. رفض الموقف الغربى من هذا العدوان الأخير على غزة واضح من خلال مظاهرات عمت العديد من المدن الأوروبية والأمريكية. ثلاثون من منظمات الطلاب فى جامعة هارفارد الأكثر تفوقا عالميا خرجوا فى مظاهرات تندد بموقف الحكومة الأمريكية. استقال مسئولون فى الخارجية الأمريكية احتجاجا على هذه السياسات، واحتج المئات من العاملين فى مقر الاتحاد الأوروبى على تصريحات أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية المناصرة لإسرائيل، بل طالبت جماعات يهودية داخل الكونجرس الأمريكى بوقف إطلاق النار حول غزة.
كتب كثيرون عن أزمة الشرعية داخل النظم السياسية الغربية، ولعل الفجوة بين الحكومات الغربية وقطاعات من الرأى العام فى بلادها حول الموقف من طوفان الأقصى هى أحد مظاهر هذه الأزمة. وإذا كان موقف الحكومات الغربية مما يجرى فى فلسطين لا يدعو العرب إلى أن يكنوا كثيرا من الود تجاهها، فإن مواقف هذه القطاعات المنصفة لا يجعلنا نختصر الغرب فى حكوماته أو فى إعلامه.