استحقت القيادة المصرية عن جدارة ذلك الثناء العطر الذى أسبغته عليها الأطراف الفلسطينية والعربية والدولية على خلفية الأسلوب الرصين الذى تعاملت به مع الأزمة الأخيرة فى غزة. أفقد الموقف المصرى بالفتح الدائم لمعبر رفح، الحصار الإسرائيلى المفروض على القطاع كل قيمة أو أثر. لم تتوقف حركة الأشخاص من خلال المعبر، أو انتقال المصابين أو عبور المساعدات ولو لساعة واحدة. رأينا للمرة الأولى رؤساء دول ورؤساء وزارات ووزراء الدول العربية ومن الدول الصديقة وهم يجوبون المعبر المصرى ذهابا وإيابا، فدعموا بذلك الشعب الفلسطينى فى غزة معنويا وماديا. لم تستطع إسرائيل هذه المرة أن تستهدف قوافل المساعدات فى عرض البحر كما دأبت على ذلك فى الماضى، ولم تتمكن من اغتيال الناشطين على ظهر السفن واقتيادهم إلى معسكرات الاحتجاز. إذن نجحت مصر فى اختراق الحصار الجائر الذى فرضه الاحتلال والذى، وللأسف الشديد ساهمت مصر فى العهد السابق فى استحكام حلقاته من حول القطاع.
لم يتوقف الأمر على اختراق الحصار، إنما تعدى ذلك إلى ممارسة مصر لدور أساسى وفاعل فى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يوم 21 نوفمبر الماضى، وكذلك تضمين اتفاق التهدئة مكاسب هامة للشعب الفلسطينى فى غزة متمثلة فى ضمانات برية وبحرية وجوية من الاعتداءات الإسرائيلية. لم يكن غريبا أن تشيد الإدارة الأمريكية وغيرها بدور القيادة المصرية خلال الأزمة، وبالدور المحورى لمصر فى المنطقة.
●●●
أمر جيد ولا شك أن تسعى مصر للاستفادة من ذلك الزخم الذى شهدته العلاقات المصرية الأمريكية خلال تلك الأزمة من أجل دعم وتعزيز العلاقات بين البلدين، وأن توفد من المبعوثين من يشرح بالمزيد المواقف والسياسية المصرية، إلا أننى توقفت طويلا أمام مجموعة من التصريحات التى صدرت عن المبعوثين المصريين ونشرتها وسائل الإعلام الأمريكية (عن غير قناعة كافية بمضمونها)، وهى التصريحات التى بدت لى أنها لا تعكس على وجه دقيق المواقف المصرية المأمولة بعد الثورة، ولا تقطع الصلة مع المواقف المصرية الملتبسة التى وقعنا أسرى لها قبل اندلاع هذه الثورة. من هذه التصريحات للمبعوثين المصريين على سبيل المثال التأكيد على استمرار الشراكة الإستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة، والقول بأن العلاقات بينهما إنما تقوم على القيم المشتركة بين البلدين، وأكثر من ذلك التأكيد على أن العلاقات إنما تحمل فى طياتها إمكانيات هائلة لبزوغ آمال جديدة داخل المنطقة، بل تتعدى ذلك إلى ما هو أبعد من المنطقة!
لم أقتنع فى يوم من الأيام بوجود مثل هذه القيم المشتركة بين مصر والولايات المتحدة أخذا فى الاعتبار المآسى التى تعرضت لها منطقتنا بسبب القيم الأمريكية المزعومة، وهى المآسى التى تعرضت لها أيضا مناطق ودول أخرى فى العالم مثل العراق وفيتنام وأفغانستان وغيرها. لم أتفهّم أيضا المقصود بالشراكة الإستراتيجية بين البلدين، اللهم إلا إذا كانت سياسات البلدين وإستراتيجيتيهما تتطابقان عند التعامل مع فلسطين أو إسرائيل أو العراق أو إيران أو السودان. اختلاف ضخم وفجوة هائلة تفصل بين مصالحنا والمصالح الأمريكية حيال كل هذه المناطق. لذلك كنت آمل ألا نعود مرة أخرى إلى تلك الشعارات الجوفاء التى حاول النظام السابق أن يُسَوّقها لنا، ومتصورا أيضا أنها تقربه من الولايات المتحدة زُلفى!
فى تصورى أنه بدلا عن ذلك لابد أن تتخذ مصر بعد ثورتها المجيدة مواقف قوية وفاعلة تجاه كل القضايا التى تمسنا، وأن تسعى من داخل الإطار العربى لأن تدفع الولايات المتحدة دفعا لتبنى قضايانا التى هى قضايا عادلة بطبيعتها. من المهم أن تستمر فى حمل الولايات المتحدة على الوقوف بحزم ضد السياسات الاستيطانية الإسرائيلية، وتهرّب إسرائيل من استحقاقات السلام. لابد من انتقاد تعامل الولايات المتحدة مع طلب فلسطين العادل فى أن تحتل مكانها الطبيعى فى منظومة الأمم المتحدة، وفى نفس الوقت التصدى لمحاولات بعض المشايعين لإسرائيل داخل الكونجرس الأمريكى، لقطع المساعدات الأمريكية عن السلطة الفلسطينية، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن. لابد من إبراز مدى التعارض فى المصالح بيننا وبين أمريكا عندما قامت الأخيرة بعرقلة عقد مؤتمر لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووى فى هلسنكى، إرضاءً لإسرائيل. أعتقد أيضا أنه حان الوقت لأن تكون قراراتنا نابعة من مصالحنا الوطنية والقومية، وليس إرضاءً أو مجاملة لأطراف خارجية، كما هو الحال فى عدم تصديقنا حتى الآن على المعاهدة الخاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية بالرغم من أن مصلحتنا فى ذلك واضحة جلية.
●●●
أثبتت كل تجارب الماضى أن الولايات المتحدة (وغيرها) إنما تُكنُّ كل الاحترام للرأى الحر المستقل، وتعمل له ألف حساب، حتى وإن جاء على غير هواها. وعلى العكس لا تقيم وزنا للآراء والمواقف التى تَضمَنُها مقدما إلى جانبها. وأحسب أن مصر الثورة ستحرص على أن تظل داخل ذلك الفريق من الدول الذى لا يخشى فى قول الحق لومة لائم.
وفوق كل ذلك، لابد أن نسرع الخطى من أجل إعادة ترتيب بيتنا الداخلى، وذلك على أسس ثابتة تجسد بصدق المبادئ التى تنادى بها الثورة، والأهداف التى تتوخاها. عندئذ لن نضل الطريق أبدا بإذن الله.
مساعد وزير الخارجية الأسبق للشئون الأمريكية