تخوض مصر منذ عدة سنوات صراعا شديدا مع إثيوبيا حول حقها التاريخى فى مياه النيل. وقد التزمت مصر منذ البداية بأقصى درجات ضبط النفس وامتنعت عن التصعيد والانزلاق إلى حوار إعلامى غوغائى مؤكدة على تمسكها بالحل السياسى التوافقى على أساس لا ضرر ولا ضرار.
وبالنظر إلى أن مياه النيل هى شريان الحياة لمصر وأن المساس بحصتها يعنى خرابا للبلاد وفناء للعباد فقد طرقت مصر أبواب المحافل الدولية لتقديم قضيتها العادلة: الاتحاد الإفريقى، الجامعة العربية، ومجلس الأمن. فضلا عن طرح ملفات القضية فى المباحثات الثنائية مع الدول على أعلى مستوى وكان آخرها القمة بين الرئيس السيسى والرئيس الفرنسى ماكرون، إلا أن هناك محفلا هاما لازلنا لم نخاطبه وأتمنى أن نسارع بطرق أبوابه وهو منظمة اليونسكو وهى المنظمة المسئولة عن الثقافة والتراث الإنسانى.
وفى إطار جهود اليونسكو للحفاظ على التراث الإنسانى أعلنت المنظمة 1100 موقع محمىّ يمثل تراثا إنسانيا مميزا يستحق الحماية وفى مصر سبعة من هذه المواقع المحمية.
فضلا عن احتضان مصر لاثنتين من عجائب الدنيا السبع هما منارة الإسكندرية والهرم الأكبر وهو الوحيد الباقى من العجائب. كما كان لليونسكو دور حيوى فى الستينيات من القرن الماضى فى إنقاذ معابد النوبة وأهمها معبد أبو سمبل.
***
علينا القيام بحملة لتعبئة اليونسكو ومن خلاله تعبئة العالم لحماية حضارة مصر التى هى نابعة من النيل طبقا لمقولة هيرودوت الشهيرة «مصر هبة النيل» وأن مصر بأسرها يجب أن تكون موقع تراث إنسانى يتمتع بالحماية وأن الحفاظ على حصتها من مياه النيل، صانع هذه الحضارة مع الإنسان المصرى، هو واجب يجب أن يحتشد العالم المتحضر بأسره من أجل حمايته.
مصر هى الجوهرة الثمينة التى حارب أعتى الفاتحين والقواد من أجل الاستئثار بها: قمبيز، الإسكندر، قيصر، أغسطس، نابليون، ولسلى، روميل، ومونتجومرى لكنها تعود دائما إلى أبنائها المصريين. افتتن العالم كله بحضارتها فسعوا إلى نهب رموزها فأخذ الرومان ثمانى مسلات وبريطانيا مسلة وفرنسا مسلة وتركيا مسلة والولايات المتحدة مسلة، يطوفون حولها خاشعين من عظمة الأيادى التى صنعتها وغصت متاحف فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وروسيا والنمسا وسويسرا ببعض أعظم الآثار التى تركها البشر.
حجر رشيد فى المتحف البريطانى ورأس نفرتيتى فى برلين والكاتب المصرى وسقف معبد دندرة فى اللوفر وتمثال النيل فى متحف الفاتيكان ولعله النهر الوحيد الذى نحت له تمثال على شكل رجل وقور يتكئ على تمثال أبو الهول. إضافة إلى فضل مصر على العلوم، فكل عالم رياضيات يعرف بردية ريند Rhind Papyrus التى تعتبر أصل الرياضيات والبرديات العديدة فى العلوم الطبية مثل بردية برلين الطبية التى تشخص أمراض النساء وبردية هيرست التى تشخص أمراض المسالك البولية وبردية أبرز للوقاية من الأمراض، وشهدت مصر أيضا بداية الأدب ممثلة فى قصة سنوحى والبحار الغريق والشقيقين.
روعة وعظمة المعمار ممثلا فى الأهرام والمعابد فضلا عن مشاريع الرى وتنظيم مياه النهر وقد حفر الفرعون سنوسرت الثالث أول قناة فى التاريخ لوصل البحرين المتوسط والأحمر عن طريق نهر النيل. وتحتشد شعوب العالم فى صفوف طويلة بالساعات لمشاهدة كنوز توت عنخ آمون أينما حلت فى متاحف العالم.
لم يكن من الغريب أن يستلهم الأدباء والفنانون أعمالهم من مصر. فكتب شكسبير مسرحيته أنطونى وكليوباترا سنة 1606 وكتب شاعر بريطانيا العظيم شيلى قصيدته أوزيماندياس Ozymandias عام 1818 عن تمثال رمسيس الثانى الضخم الذى نقله القنصل ناهب الآثار البريطانى هنرى سولت إلى بريطانيا وسماه شيلى أوزيماندياس لأن رموز الهيروغليفية لم تكن قد حلت شفرتها بعد فجهل شخصيته. وفى عام 1934 أنتجت هوليود فيلم المومياء وهو من أفلام الرعب وحقق نجاحا جماهيريا ساحقا فكررت التجربة وأنتجت مائة فيلم عن المومياوات.
وفى عام 1945 كتب الأديب الفنلندى Miko Waltari روايته التى وزعت توزيعا هائلا «سنوحى المصرى» وحولتها هوليود إلى فيلم سينمائى عام 1954 شارك فى بطولته نخبة من نجوم الصف الأول وتم تصويره بالسينما سكوب وكانت تقانة جديدة حيث كان أول فيلم يصور بها هو فيلم الرداء فى عام 1953 والاثنان من إنتاج شركة فوكس وفى نفس العام أنتجت هوليود فيلم وادى الملوك بطولة فتى هوليود المدلل روبرت تايلور.
عادت شركة فوكس إلى التيمة المصرية بعد عشر سنوات فى عام 1963 بالإنتاج الضخم كليوباترا الذى تقاضت بطلته النجمة إليزابيث تايلور مليون دولار عن دورها فى الفيلم وكان وقتها رقما قياسيا لم يتقاضاه نجم من قبل.
***
توافد على مصر مشاهير العالم ليبحروا فى السفن النيلية الفاخرة على صفحة النيل ليزوروا آثارها الخالدة وينزلوا فى فنادقها الفخمة، منهم ولى عهد بريطانيا أمير ويلز الذى صار إدوارد الثامن ومنهم تشارلز الذى لازال بعد عمر طويل وليا للعهد وأميرا لويلز، ومنهم الأديب الفرنسى الشهير صاحب رواية مدام بوفاريه جوستاف فلوبير بصحبة المصور مكسيم دو كامب Maxime Du Camp الذى التقط أول صورة فوتوغرافية لهرم خوفو، وكاتبة القصص البوليسية الأشهر أجاثا كريستى وأديب رباعية الإسكندرية لورانس داريل والرسام العظيم دافيد روبرتس ونظيره إدوين يونج اللذان سجلا برسوماتهما الآثار والحضارة المصرية فضلا عن الفرنسى بريس دافان، وأولا وأخيرا كتاب الحملة الفرنسية «وصف مصر» الذى أثار موجة الهوس بمصر Egyptominia.
مصر أيضا هى مهد الإيمان والأديان، نشأ فيها التوحيد على يد إخناتون وخرج منها موسى وزارها إبراهيم وحماها يوسف من المجاعة وأوى إليها السيد المسيح طفلا.
كل هذا يجعل من مصر بلدا مميزا تستحق أن تكون منطقة تراث إنسانى محمية وتجعل العالم كله يهب للدفاع عنها إذا جاء ما يهددها ويهدد وجودها واستمرارها وتطورها ويهدد تدفق نبع العطاء الذى قامت عليه هذه الحضارة ويثير غضب كل الشعوب المتحضرة بمن فيهم من علماء وحكماء وفلاسفة وأدباء وفنانون ومثقفون.
منظمة اليونسكو هى المحفل الذى يجب علينا أن نفعله فى هذا التحدى فضلا عن المحافل الفرعية مثل منظمة الاليكسو التابعة للجامعة العربية، ومنظمة الاسيسكو التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامى ويجب أن يصاحب ذلك حملة إعلامية ليس فى الإعلام المحلى فحسب بل على صفحات وقنوات مؤسسات مثل National Geographic ومجلة Nature والبرامج التاريخية والجغرافية مثل التى يقدمها Richard Attenborough على الـ BBC.
تطور إيجابى أخير لابد من استخدامه فى حملتنا الثقافية والحضارية وهو فوز مصر ببطولة الحضارات فى الاستفتاء الذى أجرته مؤسسة Ancient History Papyrus Posting على صفحات فيس بوك والذى يؤكد رسوخ الحضارة المصرية فى وجدان شعوب العالم واستعدادهم لرعايتها وحمايتها والدفاع عنها.
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية