تطورت العلاقات المصرية الأمريكية، خصوصا فى شقها العسكرى، بما يشبه الزواج الكاثوليكى غير المسموح فيه بالطلاق حتى عند اجتماع رغبة الطرفين. وتلعب المصالح الاستراتيجية العليا بين القاهرة وواشنطن دورا مقدسا حال خلال العقود الأخيرة من إلغاء المساعدات العسكرية التى تبلغ قيمتها السنوية 1.3 مليار دولار.
وفى الوقت الذى تؤكد فيه الوزيرة فايزة أبوالنجا مرارا منذ سقوط نظام الرئيس السابق أنه «إذا ما تم استخدام المساعدات الخارجية كأداة ضغط على مصر من أى طرف كان، فنحن فى غنى تام عن هذه المساعدات.. وأن الشعب المصرى والدولة المصرية تضع سيادة وكرامة مصر فوق كل اعتبار».
وشهد الأسبوع الماضى حدثا استدعى فى ذاكرتى ما ذكرته الوزيرة أبو النجا، فقد تلقى المشير حسين طنطاوى، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع، خطابا شديد اللهجة وقع عليه عدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ، الذى يسيطر عليه حزب الرئيس باراك أوباما الديمقراطى. وتعلق الخطاب بقضية اقتحام مكاتب منظمات أمريكية بمصر، وبتهديد واضح بلغة لا تحتمل أى لبس بوقف المساعدات العسكرية.
ولم تكن هذه هى الحالة الأولى ولن تكون بالطبع الأخيرة، فلم يترك المسئولون الأمريكيون مناسبة إلا وتطاول بعضهم على كرامة الدولة المصرية عن طريق التهديد بقطع المساعدات العسكرية أو بفرض شروط على تلقيها، كما هو الحال هذا العام.
نعم دعمت المساعدات قدرة الجيش المصرى إذ حصلت مصر خلال الأعوام الأخيرة على تكنولوجيا عسكرية أمريكية متقدمة بمليارات الدولارات، وكان من أهم الصفقات العسكرية أهمية لمصر حصولها من شركة بوينج على طائرات نقل من طراز شينوك، ومن شركة لوكهيد مارتن على طائرات إف 16، ومن شركة سيكورسكى على طائرات هليوكوبتر من طراز بلاك هوك. كذلك تصنع مصر الآن دبابات من طراز إبرامز بالتعاون مع شركة جنرال ديناميكس داخل مصر.
وفى الوقت الذى يتذكر الأمريكيون كثيرا أنهم يقدمون مساعدات عسكرية كبيرة لمصر، يتجاهلون ما تكسبه وتجنيه الولايات المتحدة مقابل تلك المساعدات. ويتناسى المسئولون الأمريكيون حقيقة أنه فى عالم السياسة لا تقدم الدول لبعضها البعض مساعدات مجانية أو بدون مقابل.
فى بدايات عام 2006، وفى عز توتر علاقات القاهرة مع واشنطن أثناء حكم جورج بوش، طلب بعض أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكى تقريرا وافيا عن المساعدات العسكرية التى تقدمها بلادهم لمصر. وطالب الأعضاء معدى الدراسة بالتركيز على ما تكسبه وتجنيه واشنطن من جراء تقديمها لهذه المساعدات.
وأشار تقرير قدمه للكونجرس مكتب محاسبة الإنفاق الحكومى U.S. Government Accountability Office والذى جاء فى 43 صفحة، وهو موجود بالكامل على موقع المؤسسة الإلكترونى، إلى كم كبير من المصالح الأمريكية التى تم خدمتها نتيجة تقديم مساعدات عسكرية لمصر. وعلى سبيل المثال، فقد سمحت مصر للطائرات العسكرية الأمريكية باستخدام أجوائها العسكرية، وخلال الفترة من 2001 ــ 2005، سمحت مصر 36553 مرة بعبور طائرات عسكرية أمريكية الأجواء المصرية، وشهدت تلك الفترة بدء الحرب الأمريكية فى أفغانستان 2001، والعراق 2003. كما منحت مصر تصريحات على وجه السرعة لعدد 861 بارجة حربية أمريكية لعبور قناة السويس خلال نفس الفترة، وقامت بتوفير الحماية الأمنية اللازمة لعبور تلك البوارج. كذلك لا تلتزم السفن الأمريكية التى تحمل أسلحة نووية، سواء كانت سفنا أو غواصات، بإبلاغ السلطات المصرية 30 يوما مقدما بمرورها.
كما كانت مصر، إلى جوار الأردن، من أول الدول التى دعمت الاحتلال الأمريكى للعراق بإرسالها سفيرا وإعادة فتح سفارتها فى بغداد. وأقامت مصر مستشفى عسكريا وأرسلت أطباء إلى قاعدة باجرام العسكرية فى أفغانستان بين عامى 2003 و2005 حيث تلقى أكثر من 100 ألف أفغانى مصاب الرعاية الصحية.
وأشار التقرير بوضوح كذلك إلى أهمية استضافة الجيش المصرى لآلاف الجنود الأمريكيين فى مناورات النجم الساطعOperation Bright Star وهى تدريبات عسكرية مشتركة تجرى كل عامين منذ بدئها عام 1983، بمشاركة عدد من الدول الحليفة من بينها ألمانيا والأردن والكويت وبريطانيا. ويذكر أن الهدف من تلك التدريبات هو القيام بمناورات عسكرية بين الولايات المتحدة وحلفائها وتقوية العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر. وتعد مناورات النجم الساطع هى الأكبر من نوعها فى العالم.
ويرتبط تلقى مساعدات عسكرية من واشنطن بلعب القاهرة دورا إقليميا لا يخدم بالضرورة مصالح الدول المصرية الاستراتيجية، وعلى سبيل المثال، ارتضى النظام المصرى أن تجمعه علاقات خاصة مع إسرائيل، وفى نفس الوقت يعادى منظمة حماس وحزب الله، وهو ما جعل منظمة آيباك، أكبر منظمات اللوبى الإسرائيلى، تقوم فى مناسبات كثيرة بالدفاع عن النظام المصرى داخل أروقة الكونجرس.
ويذكر التقرير المشار إليه أن المسئولين الأمريكيين وعددا من الخبراء الذين تمت استشارتهم أثناء التحضير لهذه الدراسة أفادوا بأن المساعدات الأمريكية لمصر تساعد فى تعزيز الأهداف الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة. لذلك فالتهديدات بقطع المساعدات العسكرية غير واقعى، وذلك هو ما دفع مايك مولين، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأسبق لتحذير الكونجرس من خطأ «تخفيض المساعدات العسكرية لمصر» مؤكدا أنها «ذات قيمة عالية جدا للولايات المتحدة، ولا تستطيع دولة أخرى أن تقوم بما تقوم به مصر من خدمة للمصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط».
من جانب واشنطن يستحيل تصور إقدام أى إدارة أمريكية على المخاطرة بعلاقاتها الخاصة بمصر، رغم التلويح المتكرر بكارت المساعدات العسكرية. ومن جانب القاهرة، لماذا نتأخر ولا نأخذ زمام المبادرة ونحرر السياسة الخارجية لمصر من عبء الزواج الكاثوليكى مع واشنطن، لماذا نسكت على التطاول، ومتى يقول حكامنا بلغة واضحة لا للمساعدات العسكرية الأمريكية لمصر.