وصلنا إلى أعتاب ثورة 25 يناير وبعضنا يعرف معرفة الواثق بوطنيته وعلمه وتجاربه أحوال أمتنا بسلبياتها وايجابياتها. كان يعرف، وأكدت الثورة ما كان يعرف وهو أن السلبيات تجاوزت الإيجابيات، وإلا ما ثار الثوار. لم يكن غائبا عن وعى البعض منا، رغم حماسة الثورة والانبهار بتفاصيلها، حقيقة أنه لا يوجد فائض يذكر فى النخبة السياسية المصرية يعتمد عليه لقيادة الثورة أو حتى إدارة مرحلة انتقالية. فقد شاء حكام العهود السابقة، وبخاصة من جاءوا بغير السياسة ومن خارجها، ان يحرموا قادة وشباب العلم والقانون والاقتصاد والإدارة من ممارسة السياسة.
لم يكن غائبا عنا ونحن فى خضم الساعات الأولى للثورة ان مشكلة كبرى سوف تطرح نفسها على الثوار، ومن ورائهم أمة واثبة ومتحفزة، وهى أن الثورة وجدت نفسها بدون قادة من صفوفها، وأن مصر الغنية بالبيروقراطيين من كافة الرتب والذين تكدست بهم قصور الحكم وردهاتها وملحقاتها ومبانى الوزارات وغيرها من أجهزة الإدارة، تعرف حق المعرفة أنها لن تجد بين هؤلاء من يصلح لقيادة ثورة توشك ان تهز أركانها. وللحق يجب أن يقال إن عددا من هؤلاء حاول بنوايا متباينة أن يتقدم الصفوف موجها حينا وناصحا حينا آخر ووسيطا إن دعت الضرورة. فاتهم أنهم أنفسهم ومن آلت إليهم السلطة فى مطلع الثورة ومن كانوا فى الشارع ومن انضم اليهم من المنافى والأقبية كانوا جميعا من خارج السياسة. بمعنى آخر لم يكن لأحدهم ميزة تميزه عن الآخر أو شرعية الخبرة السياسية اللازمة للتفاوض على مستقبل هذه الثورة.
•••
مضت الثورة تتعثر على طريق صعبة ككل طرق مصر ومسالكها. كنا نسمع عن عشق أولى أمر مصر عبر العصور لممارسة الإنكار، وهو العشق الذى تسرب عبر الزمن إلى منابر الإعلام والفكر والاكاديميا المصرية وأجهزة الدولة كافة. لم نعترف يوما، حكومة أو إعلاما أو جمعيات وأحزابا، بهزيمة عسكرية. لم نعترف بحالة واحدة من حالات انهيار اقتصاد مصر ولا لعملية انقاذ طارئة بسبب مجاعة أو كارثة عن طريق سفن تحمل القمح وتبرعات نقدية ومناقصات ومزايدات لبيع أصولنا وتراثنا. لم نعترف بأن المواطنين المصريين يتعرضون فى خارج البلاد للاذلال والاستهزاء، ورفضنا بكل إباء ما كان يقال عن أن بعض العائدين من الاغتراب تشربوا ثقافة مغايرة ويتصرفون تصرفات لو صارت منهجا لوقع ضرر جسيم لكل ما أنجزه هذا الشعب عبر عقود عديدة من جهود النهضة، وعبر محاولات الانتقال إلى مصاف الأمم المتقدمة فى العلم والفكر والدين.
نستمر فى الإنكار رغم التدهور الذى أصاب منظومة القيم ومنظومة الصحة ومنظومة التعليم ومنظومة النظافة. نستمر فى ممارسة الإنكار متصورين ان ترديد عبارة مصر أم الدنيا يسترنا ويمحو عنا العار ويرد شبهة القصور والتراخى والفساد. لم يخطر على البال ان هذه العبارة التى كانت بين أول ما دخل إلى عقولنا ونحن فى رياض الأطفال، تحولت إلى ساتر يحمينا من لسعات ضمائرنا. أو وهو الأسوأ، إلى أداة نفاق.. ينافقون بها شعب مصر، كما ينافقون أولى الأمر والنهى فيها.
•••
أخطأنا حين تصورنا أن الثورة مسيرة تتحرك على طريق مستقيم متوجهة نحو مصير محتوم لن يقدر على وقفها أو يعطلها أحد. استهنا بمناعة الفساد والنفاق والاتكالية والكذب، وبقوة صمود الجهل والفقر والتخلف، وباصرار وعناد فيروسات التآكل والتخريب، وضخامة وعدد المؤسسات والمرافق الآيلة للسقوط. هذه العناصر مجتمعة وكثير من التنظيمات الكارهة لفكرة ومعنى «الوطن» كهوية ومستقبل استنفرت قواها لإخراج الثورة من طريقها تمهيدا للإجهاز عليها.
•••
لا أشك للحظة واحدة، وبالرغم من كل المعاناة والألم، فى أن قوى ثورية جديدة ستنتفض ذات يوم قريب. عشنا أياما مجيدة تذوق خلالها المصريون وشعوب أخرى طعم الثورة. كانت حلما انقطع فى بدايته وأفقنا على واقع كئيب. أفقنا ونام الحلم. الأحلام أيضا تنام.