تجمعنا ــ «أمهات مصر لحماية شبابها» ــ تحت تمثال سعد زغلول أمام دار الأوبرا. لم نكن، بالطبع، «أمهات» فقط؛ كنا أمهات وبنات وشبابا وأطفالا ورجالا ونساء لسن أمهات. فثورتنا ــ خلاف غيرها من التوجهات الفكرية ــ لا تستوقفها المعانى الحَرفِيّة بل تلتقط الجوهر، وجوهر المعنى، فى الجمعة ١٨ يناير، كان التضامن مع الشباب والسير إلى جوارهم.
تجمعنا، ثم انضممنا إلى نقطة انطلاق مسيرة الألتراس عند النادى الأهلى ووقفنا نرقب الشباب يحتشد، لا تراهم أفرادا قادمين من دروب مختلفة، فقط تعى الجمع يزداد كثافة، يكبر كأنه يفور ويتمدد من الداخل، من الصميم. نتلاكع، نتحادث، نلتقط الصور، نقرأ إعلانات الأوبرا، نعجب للشارع الموحل الغارق فى المياة الذى يصاحب مسيراتنا دائما، ثم، فجأة، تظهر بيننا وفوقنا تلك الأعلام البيضاء الضخمة، مشرعة على سنانيرها مثل قلاع المراكب، كل قلع يبحر بصورة شهيد. ترتفع فوق رءوسنا فتسحب أرواحنا معها إلى السماء. عبقرى من فكر فى استعمال السنانير كحاملات لرايات شهدائنا: خفيفة ترحم حاملها، دقيقة تكاد لا تراها، طويلة صلبة تتحمل راية ضخمة، مرنة، تحرر الراية فتطير متماوجة فوق الرءوس.
فوقنا أيضا ذلك الصارى الضخم الراكد الموثق الذى بناه مجلسنا الأعلى للقوات المسلحة بتكلفة يعلمها الله فيقف الآن حاملا ضخما للتراب، يثقل على الجزيرة، ويعلوه علم صغير أضرب عن الرفرفة وكأنه يعرف عقم الفكرة التى وضعته هنا وينأى بنفسه عن التعاون معها. ترون الفارق؟ صارى النظم، وسنارة الثورة؟
تصدرت الرايات الموكب فانجذبنا وراءها. عاد إلىَّ ذلك الشعور بأننى جزء من كل. ألتقى بالأصدقاء والأقارب، أتبادل التحية مع أغراب، أتعرف على سيدة تنزل الشارع لأول مرة لأنها رأت أم شهيد فى التلفزيون ليلة أمس (أى الخميس الماضى) وقلبها اتقطع عليها. بنتها فى الخليج لا تصدق أنها نزلت، سعيدة بها وترسل لها رسالات تشجيع على المحمول. ألتقط لها صورة وسط الألتراس.
كان المشهد مهيبا. بعض مناظر مصر، القاهرة، تخطف قلبى. فى كل مرة أرى النيل أشعر وكأن معجزة تتكشف لى؛ أكاد لا أصدق ان عادى كده الواحد يشوف النيل بعينيه ــ يعنى أكون شفته امبارح مثلا، وبعدين أشوفه النهارده فألقاه بنفس الدهشة الطازجة، وأشكر حظى السعيد الذى جعلنى أنتمى إليه بشكل ما، له حق علىّ ولى حق عليه. (أعرف أن حقه مهدور، وأنه يلوث، ويردم، ويحتل وحتى يهدد بأن يباع، لكن هذا لا ينتقص من النيل بل منّا نحن الذين لا نمنع عنه الأذى، ويضيف إحساسى بالذنب من شعور الحنان الذى يتدفق من قلبى إليه).
أحببت دائما كوبرى قصر النيل، وأسوده الجبارة الرابضة، أما من بعد ٢٨ يناير فقد نشأت عندى لهم ــ إلى جوار الحب ــ صداقة وهيبة. الجمعة، فى المسيرة، وشباب الألتراس يهدر حولنا، وسعد زغلول يرتفع على قاعدته الجرانيتية إلى يميننا، وأمامنا الكوبرى والأسدان، يصعد شهداؤنا بينهما بعرض الكوبرى كالرؤيا: جيكا، مينا، الشيخ عماد، أحمد سرور، الحسينى أبوالفضل. يصعدون على أعلامهم البيضاء ــ أمام النيل، أمام التحرير، أمام قصر النيل وأسوده الراصدة.
الكوبرى يهتز تحت وقع أقدامنا؛ اهتزازة خفيفة، وكأنه الترامبولين وقد بدأ المتقافزون عليه فى التسخين الخفيف. أتصور أن الاهتزاز سيزداد ويزداد فنطير لنلامس الشهداء على راياتهم ثم نهبط. حين تتوقف الاهتزازة البسيطة أجدنى أقفز قفزتين وكأنى أشجع الأرض أن عاودى، اهتزى يا أرضى.
فى دَخلة الميدان يبدأون فى الغناء:
لابس تى شيرت أحمر
ورايح بورسعيد
راجع وكفنى أبيض
وف بلدى بقيت شهيد
أو وو وو و
فى الجنة يا شهيد
أو وو وو و
الثورة من جديد
يتحشرج صوتى دائما عند بداية السطر الثالث، ثم أعود وأنضم للجمع عند «فى الجنة..»
وقفت وظهرى لمبنى المجمع، أرقب جموع الشباب تمر هاتفة من الكوبرى إلى الصينية، وكانت خلفيتهم ذلك المبنى الوردى الجميل، الذى يحمل إرثنا وإرث أجدادنا فى هذه الأرض، والذى له فى اقتصاد البلاد، وفى الفساد ومحاولات درء الفساد، والذى تحول للحظة إلى مقر للسجانة والقناصة والجلادين، وهُيِّئ لى أن مصير هذا المبنى، والشكل الذى سيستقر عليه، وثيق الصلة بهذا التيار الذى يمر هادرا أمامه الآن. بين الشباب وبين تراثهم وموردهم وثروتهم مبنى حزب احترق، وفندق مبهم بين التهالك والإعمار، وأرض خراب، تقول لنا الحكومات المتتالية على مر السنين أنها تبنى فيها الحداثة، وسور معدنى خط عليه أحدهم «العدل أساس الملك». أى نعم.
كانت هذه مسيرة الألتراس، والهتافات هتافاتهم والأناشيد أناشيدهم، لكن الكل يعرف أنهم ليسوا وحدهم فى قلوبنا وعقولنا؛ بل يسكن إلى جانبهم كل شهدائنا ومصابينا، وأطفال أسيوط ومجندى البدرشين، والشباب الموجود فى السجون والشباب المستهدف والشباب المنهوب والشباب المثابر والمؤمن والثائر.
شباب شباب شباب أشكال ألوان، قوة وزخم وحماس وأمل ومستقبل. أرقبهم ــ نرقبهم ــ نحن السيدات فى العقود المتأخرة من العمر بخليط من الأمومة والرومانسية. حين كنت أتعلم طليانى استوقفنى تعبير ظللت أقلب معانيه فى ذهني؛ التعبير (تى فوليو بينى ti voglio bene)، ترجمته الحرفية «أريد لك الخير»، لكنه، فى الاستعمال، يعنى «أحبك». أنا أحب الشباب، وأريد أن تبرد قلوبهم، وياخدوا حقهم وحق أصحابهم اللى ماتوا واللى اتظلموا، ويعرفوا أنهم أقوياء وقادرون ومبدعون، أريد أن يعطوا هذا البلد ويأخذوا منه، وأن يعيشوا شبابهم ويعملوا ويتعبوا ويتحققوا ويحبوا ويفرحوا ويبنوا.
رجل كنت أراه يجلس وسط الشارع فى محمد محمود، كان يجلس على جردل مقلوب، أو ربما صندوق صغير، كان يجلس مكتفيا، ملموما فى حيز ضيق، صامتا، يرفع سنارة كأنه يصطاد على الأسفلت، وأمامه لافتة هادئة تقول: «صياد والصبر لعبتى». رومانسى أيضا، ومعبر، ومع ذلك، فللصبر حدود. وكل سنة وانت طيبة يا ثورة.