الطبع غلاب! الروح تطلع والطبع وراها!.. تعليقات كثيرا ما رددتها أمى ــ رحمة الله عليها ورضوانه ــ فى سخرية محببة للنفس تنهى بها نقاشا طال أو قصر بينها وبينى إذا ما حارت فى أمرى فآثرت السلامة، بينما أنا على رأى ما مصرة لا أتزحزح عن موقفى. كنت أفرح بتلك الانتصارات الوهمية الصغيرة التى ينتهى بها النقاش لصالحى حينما تستسلم أمى فتنعتنى بالعنيدة، فأرد فى زهو: فى الحق.
الواقع أن الأمر لم يكن ينتهى عند هذا الحد فقد كنت دائما ما أبدأ حوارا تاليا أتسائل فيه دائما ماذا يعنى الطبع؟ ولماذا تختلف الطباع إذا كنا جميعا نعود لأصل واحد؟ ما الذى يدفعنا للشر ما دمنا نعلم أن الخير أبهى وأجمل؟ منا اللين والعنيد، فينا الصبور ونافد الصبر، الحاد والهين، الكريم والبخيل، المتواضع والمغرور، بيننا المتجهم والمبتسم، الصريح الواضح والكتوم الغامض، المحب للحياة، المنطق والمنطوى على نفسه العزوف عن الدنيا والناس.
ظل «الطبع» شاغلى الشاغل كلما خلوت إلى نفسى، عددت صفاتى الحلو منها والمر وربطتها بأفعالى ودوافعى بصوت الباحث عن الحقيقة المطلقة بعيدا عن الأعين وحيدا فى حضرة الخالق.
ظل السؤال يؤرقنى: ما هو نصيبى الفعلى من «طبعى»؟ إلى أى حد أنا مسئولة عن «طبعي» الذى يبدو فى تصرفاتى وانفعالاتى وأعمالى واجتهادى ومعتقداتى وحصيلة أيامى فى النهاية؟
شغفت بقراءة علم النفس بحثا عن إجابة لسؤالى الذى لم أجرؤ على إجابته وإن حاولت بعزم لكننى لم أصل لقناعة مؤكدة، كان أول الخيط ما كتبه عالم النفس الأمريكي (gordaon Allport) عام (١٩٦١) والذى أشار إلى أنه نتوقع فى المستقبل القريب أن يكشف العلم عن علاقة قوية بين ملامح شخصية الإنسان وتركيبه البيولوجى.
تلاه العالم الإنجليزى ألمانى المولد Hans Eysenck عام (١٩٨٧) والذى رسم خريطة تجريبية من وجهة نظره لملامح شخصية الإنسان وعلاقة كيانه النفسى بكينونته الفسيولوجية.
عمل عالم النفس كثيرا فى مجال علم نفس التوائم الأمر الذى أوصله إلى أن هناك علاقة ما بين الشخصية والموروثات الجينية للإنسان.
هذا الأسبوع طالعت مقالا يضيف فى تقديرى بعضا من المعلومات الهامة التى قد تعد قطعة هامة من الموزاييك يمكنها أن تسهم فى استكمال لوحة طال انتظارها كتب christion Garret مقالا ضمنه بعضا من إسهامه فى ذات الموضوع والذى يضيف فى كتاب يتوقع أن ينتهى منه فى (٢٠١٩).
من الواضح أن عالم النفس كرستيان جارييه لديه من المعلومات العلمية ما يؤكد النظرية القائلة بأن فسيولوجيا الجسد مرآة لسيكولوجيته، إذ إنه فى مقاله لتقديم كتابه يقدم مجموعة من الأمثلة العلمية التى تشير إلى أن سلوك الإنسان مرتبط بعوامل تحت جلده.
يضرب مثلا بأن أولئك المتصالحين مع أنفسهم الذين يتوخون أحكام الضمير المحببة للعدل إنما تبدو لديهم معدلات هورمون الكورتيزول منخفضة كما أن حساسيتهم بفعل الهرمون أقل من المعدلات العادية التى بها يتأثر غيرهم من البشر. المعروف أن هورمون الكورتيزول هو المسئول عن التوتر العصبى وأزمات الضغوط المختلفة.
يضرب أيضا مثلا بالعلاقة بين حالات العصاب المختلفة ووجود باكتيريا فى الأمعاء مرضية بينما وجود الباكتيريا النافعة فى الأمعاء يعكس مظاهر صحة وهدوء نفسى للإنسان العادى.
أنتظر الكتاب بشغف وأتمنى أن تمتد بى الأيام لأتمكن من قراءته إذا ما كان فيه بالفعل ما يمكننى من الإجابة عن السؤال الذى أعرف أننا جميعا نتمنى إجابته.
هل بالفعل الطبع يغلب التطبع؟ أم أن فى التطبع تكمن فكرة جهاد النفس ومسئولية الإنسان عن سلوكه؟ أيهما أقوى بنيان الإنسان الفسيولوجى أم السيكولوجى؟ لمن الغلبة فى حياة الإنسان ومتى يحدث ذلك؟ وهل يمكن أن يحدث بالفعل سبحان الله تعالى.. وفوق كل ذى علم عليم.