كان المساء رائعًا فى شرفة الدور الأرضى المطلة على حديقة صغيرة مريحة. والأصدقاء رائقون لم يتوقفوا عن الدعابة والضحك بين أدوار الشاى التالية لعشاء جميل، والاجتماع على محبة لا نهائية لصاحب البيت.
الأحد الماضى، كانت الأمسية السنوية فى بيت الأستاذ علاء الديب. تعودت أسرته أن تحيى ذكراه مع أصدقائه القريبين، ومن كان يحبهم، فى منزله بحى المعادى. جلسة شديدة الدفء، يتوزع فيها أصدقاء الكاتب الكبير، من كل الأجيال، منقسمين إلى مجموعات صغيرة بين صالة المنزل وشرفته وحجراته المفتوحة، يتحركون من هنا إلى هناك بأريحية بالغة. وعندما تأتى ساعة العشاء لا ترتاح السيدة عصمت قنديل زوجته، أبدا، إلا بعدما تتأكد بنفسها أن الجميع تناول شيئا من الطعام. البيت مفتوح لمن كان يحبهم صاحبه، يذهبون للائتناس برائحته، وأجواء جلسته. الموجودون فى تلك الليلة هم هؤلاء الذين ترك لهم مساحة ليست محدودة من محبة كانت عنوانا بارزا لشخصية علاء الديب، الكاتب الكبير، والإنسان الأحب إلى قلبى ممن تعاملت معهم فى جيله داخل الحياة الأدبية، ومن أكثرهم شرفا وعفة نفس واحتراما لنفسه، من دون صياح أو ضوضاء أو مزايدة.
فى ليلة مشابهة قبل سنوات، أخبرتنى السيدة عصمت بمفاجأة سارة، وهى أنها بصدد التحضير لإصدار الجزء الثالث من كتاب «عصير الكتب»، أحد أشهر وأجمل مشاريع علاء الديب الأدبية. وكان الجزء الأول قد صدر فى حياته عن دار «الشروق»، ثم صدر الثانى بعد رحيله عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفى الجلسة السابقة، أسعدتنا السيدة المُحبة بتوزيع نسخ من الجزء الثالث بعدما صدر حديثا عن هيئة قصور الثقافة تحت عنوان «كتاب فى كلمة وكلمة فى كتاب».
بدأ علاء الديب مشروعه الشهير «عصير الكتب» قبل نحو أربعين عاما. كان بابا أسبوعيا يكتبه فى مجلة «صباح الخير»، وانتقلت معه الفكرة من جريدة إلى أخرى، وكانت عبارة عن مراجعة لكتاب كل أسبوع، حتى أصبح أشهر زاوية بابا ثقافيا فى الصحافة المصرية. يقول: «أسأل نفسى ما معنى هذا الباب الذى أحاول أن أكتبه كل أسبوع؟ تلك النكتة القديمة المكررة. هو ليس نقدًا بالتأكيد، وليس إعلانًا عن الكتاب، ولكن طموحه الأساسى أن يكون مشاركة فى التفكير العام».
قضى كل هذه السنوات يوصّل كتابات الكتاب الكبار فى عصور ما قبل السوشيال ميديا، وينقب عن المواهب الجديدة. هكذا صارت لدينا مراجعات نقدية بسيطة وشيقة لعشرات وربما مئات الكتب فى كل المجالات، بأسلوب جذاب وضمير مستيقظ ونزاهة ابتعدت عن انتهاز المنابر الصحفية. لا شىء سوى الإشارة إلى كتاب أعجبه، أو إلى كاتب جديد يستحق الالتفات إليه.
ساهم هذا المقال الأسبوعى واستمراريته فى التعريف بأسماء صار لها وزنها الأدبى فى ما بعد، بداية من بعض أبناء جيله، جيل الستينيات، وصولا إلى أصغر الكتاب سنا فى فترة ما قبل رحيله. وبطبيعة الحال كان بديهيا، لاستمرار مشروعه فى تقديم الكتب كل هذه السنوات، أن يكون مُطلعا إلى آخر لحظة على كل الإصدارات الجديدة، أولا بأول، ما جعله على علاقة لم تنقطع أبدا بحالة الكتابة المصرية، وتطوراتها جيل بعد جيل، ويقظة للأدب لم تؤثر عليها حالة صحية فرضت عليه ندرة الحركة لسنوات. أفكر الآن أن أى مهتم بدراسة المشهد الأدبى، المصرى خصوصا، فى تطورات أسئلة الكتابة وانشغالاتها عبر الأجيال، سيجد فى مشروع علاء الديب «عصير الكتب» نماذج لأشكال من كل الحقب الأدبية منذ الستينيات وحتى اللحظة الراهنة.
سار هذا المشروع الأدبى الكبير «عصير الكتب»، بالتوازى، مع إنتاج مجموعة مهمة من الأعمال الأدبية الأخرى، منها: «زهر الليمون» و«أطفال بلا دموع» و«المسافر الأبدى» و«قمر على المستنقع» و«القاهرة» و«صباح الجمعة» و«وقفة قبل المنحدر»، وعدد من الترجمات لصمويل بيكيت، وهنرى ميللر، وإنجمار برجمان، ومشاركة فى سيناريو فيلم المومياء لشادى عبدالسلام، وغيرها من الأعمال المعروفة والقيمة.
والاجتماع المدهش على المحبة الكبيرة لعلاء الديب ليس سببه الوحيد، قطعا، قيمته الأدبية الكبيرة، ولكن هذا الكاتب الكبير كان إنسانا كبيرا. صنع علاقة نادرة مع كل من عرفه، ولو من بعيد. لطالما قلت له، هاتفيا، إننى مُقصر فى السؤال، ويأتى رده دائما: «ماتشغلش بالك. لما يجيلك النِدا هاتكلمنى تقولى أنا جاى». وكأنه ترك تلك الحالة من الارتياح والتسامح بوابة غير مرئية، يمر عليها الداخل إلى منزله، عابرا إلى ساعات قليلة من السلام النفسى والحميمية والونس، وجلسة مرتاحة بين حجرات علاء الديب، أو فى قول آخر: أحد نبلاء مدينتنا.
اقترحت سارة علاء الديب فاصل قراءة مسموعة يتلوها بعضنا من أعماله. قرأ محمود حميدة وإبراهيم داود ورشا عزب وكاتب هذه السطور. فقرات أدبية حزينة وجميلة تلتها لحظات من صمت مبتسم. التقطنا صورا تذكارية مشحونة بالعواطف المختلطة، وقمنا نهمهم عن الونس وطاقة البيت المدهشة، وتلك الجلسة السنوية كيف تغسل أرواح الزائرين من أى آثار للعتمة والإرهاق. دايما ليلتك حلوة يا عم علاء، وحسك فى الدنيا.