لمرتين متتاليتين أعلنت الحقائق نفسها مجددًا فى الحرب على غزة، طبيعتها وأطرافها المتورطة فى أبشع الجرائم الإنسانية وأكثرها تنكيلًا بأى معنى سياسى وأخلاقى.
بالمرة الأولى، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو» لإجهاض قرار أممى يتبنى وقفًا فوريًا وغير مشروط ودائم لإطلاق النار فى غزة وانسحاب القوات الإسرائيلية بشكل كامل. وقفت بمفردها فى مواجهة إجماع أعضاء مجلس الأمن وأملت إرادتها على العالم بأسره.
وبالمرة الثانية، عارضت بمفردها تقريبًا قرار المحكمة الجنائية الدولية استصدار مذكرتى توقيف بحق بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى ويوآف جالانت وزير دفاعه المقال، بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
لم يكن استخدام «الفيتو» لحماية «الحليف الإسرائيلى» مستجدًا أو مستغربًا، على السياسات الأمريكية، لكنه بدا هذه المرة أكثر من أية مرة سابقة إمعانا فى التواطؤ على الدم الفلسطينى.
كان لافتًا أن الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة صوتوا ضدها لصالح القرار المجهض.
لم تخفِ المندوبة البريطانية حزنها الشديد لعدم صدور قرار وقف إطلاق نار ينهى المأساة المروعة، لكن إدارة جو بايدن لم تأبه بتآكل هيبتها وغياب أى منطق فى استمرار الحرب. فى اليوم التالى، وجدت الإدارة الأمريكية نفسها أمام اختبار آخر، أكثر خطورة على مستقبل النظام القانونى الدولى. استهانت بـ«الجنائية الدولية»، وشككت فى صدقيتها، وألمحت إلى إجراءات عقابية قد تتخذها ضدها.
كان ذلك استهتارًا مزدوجًا بالقانون الدولى وأى اعتبار إنسانى وتماهيًا مع جرائم الحرب، التى استدعت مثول الدولة العبرية أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية. الحقيقة التى لا بد أن تُقال إن الفلسطينيين لا يحاربون إسرائيل وحدها.
بأثر صدمة السابع من أكتوبر (2023) كادت إسرائيل أن تفقد ثقتها فى قدرة جيشها على الردع وكفاءة مؤسساتها الاستخباراتية والأمنية ومستقبل الدولة نفسها. بدت على وشك الانهيار من الداخل لولا تدخل الولايات المتحدة لحمايتها من هزيمة استراتيجية يصعب تدارك تداعياتها على المصالح الغربية فى المنطقة.
هرعت الإدارة الأمريكية لمنع ذلك الانهيار، حركت حاملة الطائرات «جيرالد فورد» مصحوبة بسفن عسكرية فى البحر المتوسط بالقرب من مسرح العمليات باسم «التنسيق الاستخباراتى والعسكرى» دفاعًا عن حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها.
كانت تلك المرة الأولى فى الحروب العربية الإسرائيلية التى يكون فيها الفلسطينيون الطرف الآخر المباشر على مسارح العمليات الواسعة. لاستعادة هيبته وقدرته على إخافة من حوله ارتكب الجيش الإسرائيلى مجازر مروعة فى غزة المحاصرة لتركيعها دون جدوى، قطعت المياه والكهرباء وإمدادات الطعام عنها واستهدفت طواقم الإسعاف لعلها تنتقم مما لحقها من إذلال. ثم تمادى فى التقتيل والتجويع وتعذيب الأسرى إلى حدود استدعت سؤال الجريمة والعقاب أو أين العدالة الدولية؟
الإعلام الغربى مال فى عمومه إلى تبنى السردية الإسرائيلية عن أحداث السابع من أكتوبر، أدان الضحية الفلسطينية، التى تتعرض يوميًا للتنكيل والتقتيل، والتهجير القسرى من البيوت دون أن ينهض أحد فى العالم لرفع الظلم عنها دون فحص لجذور الصراع وحقها فى المقاومة.
لم يكن ممكنًا لإسرائيل أن تمضى فى عمليات الانتقام والتنكيل إلى حدود «الإبادة الجماعية» فى قطاع غزة دون مشاركة كاملة من الولايات المتحدة، التى حمتها من أية مساءلة، كأنها دولة فوق القانون الدولى.
رغم ذلك لم تنجح فى تحقيق أى من أهدافها المعلنة فى الحرب على غزة، لا اجتثت المقاومة ولا استعادت رهائنها فى غزة ولا استطاعت بالوقت نفسه أن تفرض كلمتها على المقاومة اللبنانية.
رغم الأوضاع المريرة فى غزة التى هدمت تقريبًا وخربت فيها كل مظاهر الحياة فإن المقاومة ظلت تقاتل بالأظافر حتى لا ترفع الرايات البيضاء.
الأثر الرمزى والأخلاقى للقرار الجنائى الدولى لا يمكن تحديه، حتى لو جرى تعطيله بصورة أو أخرى. فهو يؤكد عدالة القضية الفلسطينية وحق شعبها فى اكتساب حريته فوق أرضه.
كان يفترض استصدار مذكرات توقيف مماثلة بحق ثلاثة قيادات فلسطينية كبيرة، «إسماعيل هنية» و«يحيى السنوار» و«محمد الضيف» بتهمة ارتكاب جرائم حرب فى السابع من أكتوبر. هناك فارق جوهرى بين الحقائق والدعايات، التى نفتها تقارير إسرائيلية نشرتها صحيفة «هاآرتس».
استشهد «هنية» و«السنوار» و«نتنياهو» نفسه أعلن سابقًا اغتيال «الضيف». هكذا أخذ العدل مجراه بعيدًا عن «هندسة مذكرات التوقيف»، ثلاثة فلسطينيين مقابل إسرائيليين، لتخفيف وطأتها على الدولة العبرية ليجد «نتنياهو» و«جالانت» نفسيهما وحيدين فى قفص الاتهام.
نُفذت أو لم تُنفذ مذكرتا التوقيف فإنه لا يمكن إلغاء الأثر التاريخى النافذ، إسرائيل دولة «مارقة» تتصور نفسها فوق القانون الدولى ومصانة من أى مساءلة عن جرائم الحرب التى ترتكبها.
نزعت أية مسوح تنتسب لحق الدفاع عن النفس أو أية ادعاءات تتهم فكرة العدالة الدولية بـ«العداء للسامية»، كأن إطلاق هذه التهمة الجاهزة تصريح دائم بارتكاب أبشع الجرائم دون عقاب.
أفلتت ردات فعل «نتنياهو» عن كل قيد. وصف القرار الدولى بـ«الشائن»، متصورًا أنه فوق المساءلة القضائية الدولية، وأن دعم الولايات المتحدة يكفى ويزيد لتعطيل أى عقاب. اعتبر نفسه ممثلًا للديمقراطيات فى العالم، التى تتعرض بقرار الجنائية الدولية إلى بطش غير مسبوق يشجع على العنف والإرهاب! ربما فوجئ أن دولًا أوروبية كبرى أعلنت التزامها بتنفيذ ما دعت إليه المحكمة الدولية، بمعنى توقيفه إذا دخل أجواءها، وقد تضم قائمة المتهمين مستقبلًا شخصيات أخرى عسكرية مثل «هرتسى هليفى» وحكومية مثل «إيتمار بن غفير» و«بتسلئيل سموتريتش».
يصعب توقع ما قد يحدث بالضبط، حيث يتمتع القضاء الأوروبى باستقلالية حقيقية وسوف يلتزم يقينًا بما يصدر عن المحكمة الجنائية الدولية.
بما هو مؤكد فإن مذكرة توقيف «نتنياهو» بالذات تثبت للأجيال الجديدة فى الغرب صحة المواقف التى اتخذوها فى الدفاع عن الضحية الفلسطينية وحقها فى المقاومة والحرية، كما تبدت فى احتجاجات جامعات النخبة الأمريكية والغربية. إنها توفر أساسًا أخلاقيًا قويًا لمد جديد فى موجات الغضب تضامنًا مع القضية الفلسطينية.
أى صدام مع المستقبل خاسر مقدمًا.
الاحتلال ليس مشروعًا.. والمقاومة ليست إرهابًا
المقاومة فكرة والأفكار لا تموت.