أذكر نقاشا دار منذ خمسة عشر عاما تقريبا أثناء غداء فى مطعم باريسى مع دبلوماسية أمريكية لم تخف تعاطفها المطلق مع إسرائيل. تجرأُت وسألتنى إذا كان العرب (وكانت تقصد أنا شخصيا) قد يقبلون يوما بإسرائيل كدولة شرق أوسطية عادية مثلها مثل باقى دول المنطقة ويتعاملون معها بشكل طبيعى، أى أن يزوروها ويقبلوا زوارا منها ويتاجروا معها ويتعاونوا فى مشاريع مشتركة. كنت أمثّل بالنسبة لها امرأة من الجيل الشاب الذى ربما «يتحرر من الأفكار السامة والكراهية تجاه الدولة اليهودية التى زرعها أهلنا فى أذهاننا وقلوبنا منذ صغرنا» حسب وصفها. كنا نجلس فى مطعم أنيق ورأيت أنه من غير اللائق أن أتسرع فى الرد وأباشر بإجابة قد تعكر الجو، فطبيعتى، نتيجة تربيتى العربية التقليدية، تمنعنى من أن أخرج عن قواعد الأدب واللباقة مهما كان الأمر. لكن فى الوقت ذاته أثار سؤالها تساؤلا حقيقيا فى نفسى: هل أنا حقا أرفض فى عمقى وجود هذا الكيان؟ وهل تأثرت فعلا بأقوال عائلتى ومجتمعى إلى درجة أننى غير قادرة عقلانيا أن أتقبل فكرة التعايش معه؟
كان الظرف السياسى آنذاك جديدا نوعا ما فقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد وقّعت اتفاقية أوسلو، وبدأت الأطراف فى تطبيقها على الأرض. كان الرئيس ياسر عرفات يؤكد ثقته فى أن شريكه فى عملية السلام إسحاق رابين لن يخدعه رغم أن سكان الأراضى المحتلة خاصة المقدسيين منهم كانوا ساخطين من مضاعفة مساحات المستوطنات وبناء الطرق الالتفافية، التى لم تتوقف يوما منذ بداية الحركة الصهيونية. كانت الأردن تتقدم بسرعة فى مفاوضاتها وملامح اتفاقية وادى عربة تتضح، بينما يتفاوض السوريون مع فريق إسرائيلى يعتبره جادا فى نيته التوصل إلى حل مقبول.
قررت إذن أن أجيب بصدق كامل من غير التفاف أو حرج لأننى وجدتها فرصة لكى أعبّر عن قناعة كانت قد نمت فى ذهنى مع الزمن وتأكدت مع النتائج الأولية المشجعة لعملية السلام. فقلت لها بأسلوب مباشر وصريح «أنا من الجيل الذى وعى على وقائع المنطقة مع حرب يونيو (حزيران)، فوجود إسرائيل واقع كنا ننتظر اليوم الذى سوف تقبل فيه بدفع الثمن المطلوب منها لكى نقيم صلحا معها وننصرف إلى معالجة قضايانا الأخرى الملحة. أعتقد أننا فى لحظة فاصلة من تاريخ المنطقة وتاريخ هذه الدولة. لقد تغلّب التيار المعتدل فى العالم العربى على قوى الرفض، وهو الآن يمد يده لإسرائيل. قد تبقى هذه اليد ممدودة والفرصة قائمة لمدة معينة ربما تستمر لعشر سنوات ولكننى أعتقد بكل صراحة أن بعد هذه الفترة لن تبقى هذه الأيدى ممدودة، وقد تضيع الفرصة وأنا شخصيا سآسف لمثل هذا التطور لأننى أؤمن بأن كل واحد منا إنسان قبل أن يكون عضو من شعب ودين وثقافة وأنه يمكننا التلاقى والتعايش على أرضية هذه الإنسانية المشتركة بعد أن يكون كل طرف قد اعترف بالاحتياجات الحيوية للطرف الآخر. توقفت عند ذلك عن الكلام لأننى شعرت بارتياح لقدرتى على التعبير عما هو فى صميم قناعتى دون تنازل ودون غضب أو تقليل من احترام لمحاورتى. أما هى فاكتفت بهذا الرد دون تعليق وانتقلت إلى نقاش حول قضايا آنية تتحدث عنها الصحف تاركة ردى على سؤالها الجوهرى جانبا.
لقد مر أكثر من عقد ونصف على هذا الحوار ولم ألتق هذه السيدة الدبلوماسية بعد ذلك. تابعت فى العمل البحثى والتعليمى مثلى مثل آلاف الباحثين العرب، الذين ذهبت بهم الظروف إلى العمل فى مؤسسات فى الغرب. واجهت أفكارا مسبقة ومعرفة محدودة عن واقع الصراع على الأرض كانت ترغمنى دائما على بذل جهد خاص لتفسير الأمور الأساسية بشكل مبسط وبكلمات محايدة كى تصل الرسالة بأكثر قدر من الفعالية. لم أضع قناعتى بالحل التوافقى موضع تساؤل طوال هذه السنين بل أخذت أنظر إلى الأوجه الإيجابية لتطورات الأمور، فبينما كان الوضع يتدهور باستمرار فى الأراضى الفلسطينية ويزداد البطش الإسرائيلى فعالية فى خنق الشعب فى الضفة والقطاع، لم تعد إسرائيل قادرة على حجب المعلومات ومنعها من الوصول إلى الخارج. بدأ ذلك بفضل منظمات حقوقية دولية وفلسطينية وإسرائيلية وناشطين فى الميدان الأكاديمى من طلاب وأساتذة وصحفيين مهنيين، من بينهم ومن أنشطهم، أعداد كبيرة من اليهود بعضهم يحمل الجنسية الإسرائيلية. ثم انتقل الأمر إلى مبعوثى الأجهزة الدبلوماسية الغربية فى القدس والأوروبيين بشكل خاص، الذين أصبحوا يعملون سويا ليعدوا تقارير مفصلة عن تطور الأوضاع بالأرقام والخرائط، ويبعثوا بها إلى دوائر الاتحاد الأوروبى. فأصبحت بروكسل تتلقى هذه التقارير بانتظام، بينما توقع بنفس الانتظام على تحويلات مالية لصالح سلطة فلسطينية أصبحت مسئولة عن شعب دون أن تكون مسئولة عن الأرض، التى يسكنها هذا الشعب. مع كل هذه المعلومات الواردة من مصادر محايدة، كنت واثقة أن الدول ذات النفوذ الحاسم على إسرائيل لم تعد قادرة على الادعاء أنها لم تكن تعلم بالواقع، وأن ذلك قد هيأ الأرضية اللازمة لكى تتغلب الدول الأكثر ترددا على مخاوفها، وتتوجه نحو تبنى استراتيجية تضغط من خلالها على إسرائيل دون أن تخشى اتهامات أصدقاء إسرائيل بمعاداة السامية أو تغذية هاجس المحاصرة المعروف بعقدة «ماسادا» فى التاريخ اليهودى ليلوحوا بردّة فعل عكسية.
اشتدت لهجة القوى الدولية وغضب رئيس أعظمها وأصبح عدد متزايد من المسئولين فى الغرب يعبرون عن قناعتهم بأن إسرائيل دولة «مارقة» أصبحت صفتها الاستثنائية الوحيدة أنها لا تتعرض للعقاب كغيرها من الدول المارقة. ولكنهم لا يبدون رأيهم هذا إلا خلف أبواب مغلقة.
صحيح أن الأمور تقدمت بشكل ملحوظ نحو ترسيخ الوعى فى جميع المؤسسات الدولية بأن الصراع ليس بين قوى متعادلة وأن الطرف الضعيف هو الطرف الفلسطينى، الذى يحتاج إلى حماية خارجية، وبعد أن قاطع الغرب حكومة حماس بدأ يعيد النظر فى سياسته وينادى بإنشاء حكومة وحدة وطنية فلسطينية. صحيح أن هذه القوى أصبحت تُجمع على أسس الاتفاق العادل كما تراه، ومضمونه يتطابق مع الحلول التوافقية، التى طرحتها جهات فلسطينية وعربية فى مختلف مبادراتها عبر السنوات العشر الماضية حول جميع القضايا من اللاجئين إلى القدس مرورا بالترتيبات الأمنية وحتى مبدأ تبادل طفيف للأراضى يراعى الواقع السكانى على الأرض. لقد أصبح هناك توافق دولى على شكل الحل بتفاصيله قد يقبل به أغلبية الفلسطينيين والعرب. ولكن لم تطرح أى من هذه الخطط تصورا أو توصيات حول الإجراءات اللازمة فى حال رفضت إسرائيل هذه المقترحات.
عادت إلى الهمة مع مجموعة صغيرة لكى أنشط من جديد فى محاولة لتحريك النيات الطيبة عند بعض الشخصيات ذات الوزن السياسى والمعنوى لدى النخبة السياسية الأوروبية، لكنى سرعان ما اكتشفت أن هناك جدارا زجاجيا يفصل بين الحديث عن الرؤية وتحديد المسئوليات من جهة وبين طرح السلوك المطلوب للتعامل مع التحديات من أجل التوصل إلى هذا الحل من جهة أخرى. فكلما أثار أحد الحاضرين فكرة أن رفض إسرائيل يتطلب التلويح بأنه قد يترتب عليه «نتائج» (ولا أحد يجرؤ أن يستخدم حتى مصطلح العقوبات) وجدنا رفضا لمناقشة مجرد المبدأ بحد ذاته.
تقف اليوم كل الأطراف العربية شعوبا وأحزابا وحكومات عند نقطة الفصل هذه لتسأل «ما الذى سوف تفعلوه أمام ما تقوم به إسرائيل يوميا على الأرض؟ إنها تقاوم الحل وتستفز كل عقل وقلب عربى معتدل. فماذا بعد؟».
أما أنا فأجد نفسى تقاوم ذاتها لكى تؤجل اللحظة التى أفقد فيها الأمل. فماذا تبقى لدى من التفاؤل الذى جعلنى أثق بهذه القوى الخارجية؟ سألنى أحد الوزراء السابقين عن سر عنادى فى محاولة تحريك النوايا الطيبة الأوروبية، فكدت أن أجيب بصراحة لأقول له «ليتك تعلم ما يدور فى ذهنى، فنحن العرب الأكثر اعتدالا نجلس على خطوطنا الحمراء منذ زمن طويل، حيث نراها تشتعل بين آونة وأخرى لتصبح خط نار على الأرض، لكنها أصبحت مشتعلة فى قلوبنا بشكل صراع داخلى دائم، فالخيار بالنسبة لى ليس بين أن أهتم بهذه القضية أو أنصرف إلى اهتمامات مجدية بل الخطر هو أن أفقد أنا وأمثالى الأمل الأخير وأقول لأى دبلوماسى يسألنى مرة أخرى عن استعداد المجتمعات العربية لقبول الدولة اليهودية أنه قد فات الأوان ولم تعد هناك أى يد ممدودة»، ولكننى استدركت قائلة: «أنت على حق فأنا عنيدة فعلا لأننى أريدك أن تدرك أنكم أنتم أملنا الأخير».