كان أمس يوما للانتحار الجماعى ..هذه الحشود والحشود المضادة لا تعنى إلا أن أناسا صنعوا ثورة رائعة، ثم قرروا هدمها وإحراقها وإطلاق النار عليها.. وسواء كان يوم أمس قد مر دون إراقة دماء، أو العكس، فإن نزيفا لايزال مستمرا فى هذه الثورة وقيمها ومبادئها الإنسانية والوطنية والأخلاقية.
إن مصر كلها تدفع ثمنا باهظا لنزوات حمقاء لمجموعة من الجنرالات المتقاعدين والقاعدين ممن اخشنت جلودهم وانتفخت ذواتهم فلم يعد يهزهم جريان الدم على الأسفلت، وكأن أحدا لم ينظر فى كتاب التاريخ ليعلم أن هذه الأمة انتكست وانتكبت وتأخرت وضاعت فى طرقات التخلف نتيجة مواقف مشابهة للمشهد الذى تابعه العالم أمس.
والمشهد باختصار أن شريكين فى معركة باسلة حققا انتصارا أوليا ثم أسكرتهما نشوة الانفراد والريادة فاستدارا يتبارزان ويقتل أحدهما الآخر، فانقض الذى كان بالنسبة لهما عدوا على الساحة.
إنهم كلهم يحفظون تاريخ مأساة الفتنة الكبرى عن ظهر قلب، ويطنطنون بحكاية كربلاء طوال الوقت ويذرفون الدمع الهتون على الصفحات السوداء فى كتب التاريخ، لكنهم يبذلون الغالى والنفيس ليعيدوا إنتاج المآسى والفواجع.
ولا يعرف أحد ما هو المكسب الكبير الذى سيتحقق للثورة المصرية حين تصعد الأطراف التى تشاركت فى صناعتها جبل المقطم وتتحارب وتطعن بعضها بعضا وتنحدر وتسقط من الأعلى إلى سفح الانحطاط الحضارى؟
من هو العبقرى الذى أوحى للذين كانوا جمعا واحدا ويدا واحدة بالذهاب إلى مراعى الانتحار والرقص على الدماء والأشلاء؟
أذكر أنه قبل شهور قليلة من الآن كانت بوادر النكسة الأخلاقية للثورة حين صار ميدان التحرير غير قادر على استيعاب متظاهرى التيارات الإسلامية وجماهير القوى المدنية والليبرالية معا.. وفى ذلك الوقت وقعت اشتباكات وأريقت دماء وانتهى الموقف المؤسف بأن اعتبر بعضهم أن ذهاب الإخوان إلى ميدان التحرير بمثابة إعلان حرب ودعوة لسفك الدماء.
ومنذ ذلك الوقت جرى الإعلان رسميا عن قسمة الثورة المصرية على اثنين وتشظى وانشطار الكتلة الثورية إلى قطع صغيرة متناثرة، كل منها يقول «أنا الثورة والثورة أنا» وتمزقت خريطة ميدان التحرير كوعاء لجميع الثوار، ودخلنا فى ثنائية (الاتحادية ــ نهضة مصر) واختفت هتافات «ايد واحدة» وتقطع الجسد الثورى، وتحول إلى خصمين لدودين، واشتغلت ماكينة البذاءة والقبح بكامل طاقتها.
وتحفظ الذاكرة أن انتقادات عنيفة بلغت حد الاتهام بالقتل وجهت للإخوان لأنهم ذهبوا للتظاهر عند قصر الرئيس (الإخوانى) ضد معارضيه، فترسخت عملية تقسيم الميادين وارتفعت الجدران العازلة، وكما انتقدنا الإخوان والإسلاميين على ذهابهم للاتحادية ما أدى إلى حدوث مصادمات مع القوى الأخرى، لا يمكن أن نصفق لقرار الإحزاب والحركات التى توجهت إلى مقر الإخوان فى المقطم ولا تبرئة كل الذين سعوا إلى صدام مجنون، ولا يمكن وصف هذا التحرك إلا بالانتحار.